بين "بيان العشائر" الذي أصبح شهيرا الآن، البيان الذي دعا دون أي تأويل إلى إغلاق المؤسسات الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة وانسحاب فلسطين من التوقيع على اتفاقية "سيداو" وتحذير وسائل الإعلام من الترويج لها، وبين إغلاق جامعة بيرزيت  بالجنازير ومنع الهيئة التدريسية وإدارة الجامعة من الدخول إلى الحرم الجامعي، بين الحدثين يقع المجتمع الفلسطيني، وفي زاوية من المشهد تتجمع "السلطة الوطنية" ذراع منظمة التحرير، بينما بقية جسد المنظمة يتحول إلى شبح كمن يطوي بوعي حقبة من التنوير والأحلام وأفكار الدولة المدنية، وفوق كل هذا تنتشر مظلة الاحتلال وأذرعه الكثيرة، ودورياته، من بناة المستوطنات وحارقي الكروم.
لنقل باختصار مفيد ومؤلم: تقع بلادنا بين سطوة بعض "العشائر" التي تقترح نفسها بديلا عن السياسة والقضاء والقانون ومؤسسات المجتمع المدني والسلطة ومنظمة التحرير، وبين بقايا "الفصائل" التي تعوض عجزها الثقافي والفكري وافتقاد البوصلة وغيابها عن الواقع، باستحضار ماضيها وإحلاله كبديل عن الراهن، وهو الخيار الذي التجأت إليه منذ صدمة الانتفاضة الأولى ثم توقيع اتفاقيات أوسلو وإقامة "السلطة الوطنية" وبداية تفكك "م.ت.ف"، وانسحابها أمام تمدد السلطة وانسحاب السلطة أمام هيمنة "فتح"، وتعزز بشكل نهائي بعد انقلاب حماس (2007) وإقامة حكم "الإخوان المسلمين" في قطاع غزة كبديل، بحكم الواقع، للمنظمة والتاريخ الوطني الفلسطيني.
إغلاق جامعة بيرزيت، المؤسسة التعليمية الفلسطينية الأهم بالجنازير هو آخر تمثلات هذا الخيار ومخرجاته.
لم تكن منظمة التحرير حلما أو ائتلافا مثاليا للوطنية الفلسطينية، لا أظن أن هناك من يرى غير ذلك، ولكنها، دون شك، كانت الأداة الأنسب والبيئة التي يمكن للبرنامج الوطني أن يتشكل في إطارها.  
المفارقة أن معظم هذا الخراب، لا أجد تعبيرا أكثر دقة من ذلك، جاء من فكرة "الرفض" وتغذى على بلاغتها، وهي فكرة لها جذورها القوية، وخطابها الطويل الذي رافق انطلاقة الثورة، وتحالفاتها مع الديكتاتوريات العربية المجاورة والبعيدة، "البعث" بجناحيه العراقي والسوري على وجه الخصوص.
"الرفض" بانتقائيته الانتهازية مثل رفض أوسلو و"التنسيق الأمني"، والمطالبة، في نفس الوقت، بحصة من الغنائم والوظائف العليا والمقاعد المؤجرة في هيئات المنظمات الشعبية تحت لافتة "قائمة الوحدة الوطنية"، وبطاقات الـ"في آي بي" والمركبات الرسمية.. الى آخر هذه الامتيازات الصغيرة الأقرب الى رشوة على شكل "كرتونة معلبات" فاسدة.
رفض "الانقسام" والصمت على مشروع "الانقلاب" وما جره من قمع غير مسبوق للحريات وفرض الفكر السلفي على الحياة اليومية للناس، ومقايضة كل هذا بترخيص مكتب هنا أوهناك وتصريح من أمن "حماس" لإحياء يوم الانطلاقة، مزيد من المعلبات الفاسدة.
رفض "بيان العشائر"، بشيء من الليونة الغريبة، الرافض لاتفاقية "سيداو" والاتكاء على موقف العشائر، بقوة، في رفض "قانون الضمان الاجتماعي"... الى آخر هذا التخبط الذي تسببت فيه سياسة الإرضاء وتأجيل ما هو مبدئي لصالح مكاسب صغيرة، وانتظار "كرتونة المعلبات" في نهاية الشهر.
يدفع الفلسطينيون ثمن تفكيك منظمة التحرير وتبديد فكرتها، وتغييب منجزها.
في غياب المنظمة ستحاول قوى كثيرة تعبئة الفراغ الكبير الذي سيبقى، سواء العشائر والفكر الحزبي السلفي الذي يتقنع بها، أو "الإخوان المسلمون" ومشروع "إمارة غزة"، أو بقايا الفصائل التائهة.