و»لولا أن (حماس) قامت بمغامرتها العام 2007»، هي الجملة التي لن يكف أي فلسطيني عن استخدامها يناقش أزمة النظام السياسي التي بدأت عندما طردت الحركة السلطة من قطاع غزة، لولا تلك المغامرة لكنا الآن في منتصف الدورة الرابعة للمجلس التشريعي منذ 2006 ونتحضر للخامسة. ولكن من الجيد أننا نراها تتوق للانتخابات حد التوسل لتكون عِبرة لأي قوة فلسطينية تفكر في استخدام السلاح لحسم أي خلافات داخلية.
منذ 2007، أصيب النظام السياسي الفلسطيني بما يشبه الشلل وتوقفت آليات تجديده. وبات الفلسطينيون يعتقدون أن الحوارات التي تتم يمكن لها أن تتوصل إلى نتيجة وحين فشلت كل الحوارات التي طافت كل العواصم، بدأت المطالبة بإعادة الصلاحيات للشعب القادر على حسم ما فشلت به القوى والفصائل، حيث التعبير الأبرز عن ذلك هو صندوق الانتخاب، وهو ما يحدث لأي شعب حين يفشل نظامه السياسي، وما يحدث في إسرائيل التي تجري انتخابات ثلاث مرات في العام الأخير أبرز مثال.
في أيلول الماضي، ومن على منصة الأمم المتحدة، ألقى الرئيس محمود عباس خطابه الذي أفرد مساحة للانتخابات الفلسطينية، ولأول مرة تبدأ عجلتها بالدوران بشكل أكثر جدية من السابق، وسط رغبة جميع الأطراف الفلسطينية المتنازعة وزيارات للجنة الانتخابات لقطاع غزة والتي عملت خارج صلاحياتها الإدارية لتنوب عن الحوار الوطني لجسر الهوة بين الفصائل لنصل إلى موافقة الجميع على إجرائها بالشكل والنسبة التي أرادها الرئيس.
وبعد أن توافق الجميع على إجرائها، اصطدموا بالعقبة الرئيسة المتوقعة وهي سماح إسرائيل للفلسطينيين بالاقتراع في القدس، وهو ما كان متوقعا من الدولة التي تعني الانتخابات بالنسبة لها إعادة توحيد الفلسطينيين ووقف مشروعها بفصل غزة ثم توقف الأمر عند المرسوم الرئاسي بإجراء الانتخابات بانتظار الرد الإسرائيلي على الطلب الذي تقدمت به السلطة لإسرائيل.
ليس هناك عاقل يفترض أن إسرائيل ستقلع عين مشروعها بيدها وتوافق على الانتخابات إلا إذا كانت تحضر لأزمة أكبر ولكن بكل الظروف فإن إسرائيل ليست معنية بإجرائها، وهنا أثير الجدل بين الفلسطينيين، بين مَن يطالب الرئيس بإصدار المرسوم الرئاسي أولا، ومن يعتبر أن المرسوم يجب أن ينتظر الموافقة الإسرائيلية التي لن تأتي، وهذا الجدال خرج عن مساره كعادة الفلسطينيين بالاتهامات حد التخوين.
ولأن الأمر يتعلق بالمصير الفلسطيني، بل بالأزمة الأخطر بين الفلسطينيين، فقد اتسع النقاش حول المسألة وإن كان الجميع يتفق على ألا انتخابات دون القدس فتلك واحدة من خطوط الفلسطينيين الحمر، لكن نشأ خلاف حول إصدار المرسوم الرئاسي خصوصا بعد أن تجاهلت إسرائيل طلب الفلسطينيين فهل ننتظر الموافقة الاسرائيلية على ما هو في غير صالحها؟ أم يصدر المرسوم الرئاسي وتمنع إسرائيل الانتخابات بشكل عملي وأكثر وضوحا؟.
أغلب الظن أن لا مسألة لا تحتاج كثيرا من الاجتهاد السياسي ولا تحتاج إلى مستشارين من العباقرة حتى يقولوا إن إصدار المرسوم هو شأن وطني كجزء من حالة الكفاح الوطني، وخاصة أن الجميع يعلن أن علينا أن نجعل من الانتخابات في القدس جزءا من الاشتباك مع الاحتلال، فهل يمكن ذلك ونحن ننتظر موافقته وتجاهله بل ورغبته في إدامة انقسامنا؟ وهل نتصور أن الاحتلال شديد الحرص على أن نحتكم للصندوق ونعيد توحيد أنفسنا؟
إن انتظار الرد الإسرائيلي هو عملية تبهيت للمسألة وكبت للاندفاعة التي حصلت. فإسرائيل لن ترد ونحن سنبقى في حالة انتظار لكن يمكن أن نحول الانتخابات في القدس إلى مسألة اشتباك إذا ما صدر المرسوم الرئاسي وأعطيت الأوامر للجنة الانتخابات ببدء التحضير دون انتظار رأيها بها.
وحينها فقط، تتحول الانتخابات في القدس إلى اشتباك حقيقي وتكون إسرائيل أمام خيارين: إما الموافقة على الانتخابات، وحينها نتمكن من إجرائها بحرية ونحقق هدفنا الوطني وإما أن ترفض إسرائيل وهو المتوقع وخصوصا في موضوع القدس وللرفض الإسرائيلي تعبيراته بأن يلاحق الاحتلال لجنة الانتخابات أو يعتقل أفرادها أو يحطم الصناديق الانتخابية.
إن في تحطيمه للصناديق أو اعتقال أي من أفراد لجنة الانتخابات هو أقصى ما يريده الفلسطينيون إن تمكنوا من الحصول على صورة إسرائيل التي تدعي الديمقراطية ولكنها تلاحق تلك الديمقراطية لدى الفلسطينيين وتمنعهم من ممارستها. وهكذا فقط تكون الانتخابات في القدس هي حالة اشتباك مع الاحتلال وليس الانتظار السلبي.
إن صورة إسرائيل وهي تحطم الصناديق هي الصورة التي يحتاجها الفلسطيني الذي يتعرض لضغوطات دولية لإجراء الانتخابات، وصورة إسرائيل وهي تقمع الفلسطينيين هي تلك الصورة التي يجب توزيعها كهدايا لكل زعماء العالم بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تلح على إجراء الانتخابات وغيرها من الزعماء الأوروبيين الذين يتعاملون مع إسرائيل كدولة ديمقراطية وكيف تتصرف تجاه الشعب الفلسطيني أو تبدو الدولة الأكثر عداء للديمقراطية وفي هذا ما ينزع أحد أبرز دعاياتها أمام العالم.
لقد خرجت إسرائيل من مأزق محقق بعدم الرد. فهي لا تستطيع الرد بالإيجاب إمعانا في تشظي الفلسطينيين وليبقوا منقسمين كما هم، ولم ترد بالسلب حتى لا تصطدم مع العالم فاختارت التجاهل ولكن هذا الخيار هو الأسوأ للفلسطينيين لأن الانتظار في غير صالحهم فهو يعني التسليم بعدم إجراء الانتخابات، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، تفويت فرصة دفع إسرائيل لمنعها بملاحقات وإجراءات واضحة أمام العالم، إن إصدار المرسوم الرئاسي يعني إلقاء الكرة بكاملها في الملعب الإسرائيلي، فإن يصدر المرسوم يعني تحديد يوم محدد والطلب من كل دول العالم إرسال مراقبين لها في ذلك اليوم، وحبذا لو طلب الفلسطينيون من الدول الأوروبية طواقم التدريب مسبقا كي تأتي لتعطي خبرتها للطواقم الفلسطينية تمهيدا للاقتراع. وبهذا نضع العالم أيضا في مواجهة الإسرائيلي ولندع إسرائيل تمنع طواقم المراقبة والإشراف الألمانية والبريطانية والفرنسية مثلا.
إن في إصدار المرسوم ما يدعو السكان في القدس للتحضير للانتخابات وبدء التحضير للدعاية والزيارات والتظاهرات والنشاط الوطني الغائب وتحويل ذلك إلى مقدمة لمواجهات في حال التدخل الإسرائيلي. وهكذا نحول الانتخابات في القدس إلى عملية اشتباك مع الاحتلال، أما انتظار موافقته فيضيع هذه الفرصة.