تقوم الدعاية الصهيونية على ركائز عديدة، من أبرزها نفي وجود الشعب الفلسطيني، والادعاء أن فلسطين كانت خالية من السكان حين وضعتها الحركة الصهيونية هدفاً لإقامة وطن قومي لليهود. ومن أجل تكريس هذه المقولة عمل الإعلام الصهيوني على نفي وإلغاء الرواية التاريخية لفلسطين وشعبها، وإحلال الرواية التوراتية مكانها.. وبالرغم من ضعف هذه الرواية، إلا أنها كانت ضرورية، وشرطاً لا يمكننا تصور نجاح المشروع الصهيوني بدونها، فهي توفر قوة دفع له في مراحله المبكرة، من أجل تبرير الاستيلاء على فلسطين، ولجلب الجماعات اليهودية إليها.. مع إضفاء هالة من القداسة على هذه الرواية، لتكون بمثابة خلفيته التاريخية، وهادياً وناظماً للعلاقات الاجتماعية والسياسية بين أفراد هذا الكيان، بحيث يرى المجتمع الإسرائيلي الحالي صورته من خلالها في الماضي السحيق، ويُعبِّر عن امتداده وتواصله التاريخي، ولتكون رابطة تجمع بين شتات اليهود في العالم.
فعملية إعادة بناء الماضي المتخيل لإسرائيل، لم تكن صراعاً حول التاريخ، بقدر ما كانت ارتكازاً عليه من أجل الهيمنة على الحاضر؛ وبالتالي فإن إعادة قراءة التاريخ ليست مجرد إعادة بناء نزيهة للماضي، أو عبارة عن جدال أكاديمي بين مثقفين حول مفاهيم تاريخية معينة، بل هي عملية توظيف للتاريخ لخدمة الأهداف السياسية التي سعت الحركة الصهيونية لتحقيقها.
ومن الطبيعي أن هذه المزاعم تعني نفي الطرف الآخر (الفلسطينيون) ومصادرة حقهم بالوجود، بل وإنكار وجودهم، وفي الحالات التي تضطر إلى الاعتراف بهم، أو التعامل معهم؛ فهم مجرد سكان محليين، ليست لهم حقوق وطنية.
في المقابل، عمل الفلسطينيون على تثبيت روايتهم الحقيقية، بالتأكيد على أقدمية الوجود الكنعاني.. إلا أن جهدهم هذا كانت تعتريه مشكلة أساسية، فالمناهج الدراسية والخطاب الديني في فلسطين والعالم العربي يربيان الأجيال على فهم التاريخ اليهودي كما تصوره الخرافات وكما تشتهي قلوب غلاة الحركة الصهيونية: على أنه تاريخ متصل لشعب متميز يحمل خصائص معينة، ويجد مبرراته في كل حقبة من حقب تاريخ هذه المنطقة وروابط مع أحداثها وشخوصها ومدنها، وبالتالي فهو يضرب جذوره عميقاً في تراب هذا الوطن. وهذه المناهج لم تأت من فراغ، ولم يكتبها لنا أحبار اليهود، بل كتبها مؤرخون عرب ومسلمون، فَهِمُوا تاريخ فلسطين استناداً للرواية الدينية التي تناقلتها الأجيال كقصة مؤكدة لا تحتاج إثباتاً. مثال على ذلك تأكيد الخطاب الديني على العلاقة بين اليهود وبين النبي إبراهيم، وبنيه من بعده (عصر الآباء)، ومع النبي موسى، وشخصيات لم يثبت العلم تاريخيتها مثل يوشع، وممالك وهمية مثل مملكة داود وسليمان، وقصة الخروج من مصر، وغيرها من الأساطير التوراتية.
دون أن ننفي عشرات الكتب والدراسات البحثية الجادة التي ناضلت على هذه الجبهة، يضاف إليها مؤتمر "فلسطين الكنعانية"، الذي عقدته وزارة الثقافة في كانون الأول 2019، والذي يكتسب أهمية قصوى من حيث أهدافه ومراميه، لكن بعض الأوراق البحثية التي قدمت في المؤتمر وقعت في فخ الرواية التوراتية، وأخذت تستند إلى ركائز دينية غيبية.
مثل هذه الجهود ضرورية جداً، شريطة أن تُبنى من منظار علمي مجرد من الغيبيات؛ فكتابة التاريخ الفلسطيني مسألة بالغة الأهمية، أولاً لتقويض الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها الصهيونية، وهي ادعاء امتلاك التاريخ القديم، وثانياً لتفنيد مزاعمها وادعاءاتها الباطلة بحق احتلال الغير، وثالثاً لإعادة الاعتبار لجزء مهم وأساسي من تاريخ فلسطين القديم.
وهي مهمة علمية تتطلب أقصى درجات المهنية والموضوعية، وأيضاً مهمة وطنية تسعى إلى تثبيت الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه، ولإنصاف تاريخه المظلوم والمغيّب. ومع ذلك لا يجب أن نتوقع أنه بمجرد تثبيت هذا الحق، أو كشف حجم الزيف والكذب في الرواية الإسرائيلية فإن دولة إسرائيل ستنهار؛ حيث إن إسرائيل بعد أن استقرت وصارت من أقوى دول المنطقة، صار بوسعها التقليل من اعتمادها على الشرعيات التاريخية والدينية، وأن تستند في حقها في الوجود إلى قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يعد بمثابة شهادة ميلاد كيانها، وعلى توازنات النظام الدولي، وعلى دورها الوظيفي، وتحالفاتها مع أميركا والغرب عموماً، بالإضافة لاعتمادها على قوتها العسكرية، وماكينتها الإعلامية الضخمة.
ومع الإقرار بأهمية جبهة التاريخ، كأحد الجبهات الرئيسة في ميادين الصراع، إلا أنه بوسعنا تخيل نجاحنا في تفنيد الرواية التوراتية، وإقناع العالم بأسره أنها رواية زائفة، بل يمكننا تخيل اقتناع اليهود الإسرائيليين أنفسهم ببطلان روايتهم المزعومة، وربما تحولهم عن اليهودية إلى أي دين آخر.. فهل سيغير هذا شيئا من الواقع؟ وهل سيغير حقائق ومرتكزات الصراع؟
في حقيقة الأمر، صراعنا مع المشروع الصهيوني لم يكن صراعاً دينياً عقائدياً؛ فاليهود بوصفهم يهوداً لم يكونوا أعداء لنا في أي مرحلة من التاريخ، واليهودية نفسها دين سماوي، يطالبنا ديننا الإسلامي (والمسيحي) باحترامه واحترام أنبيائه.. صراعنا الحقيقي مع الصهيونية، بكل ما تحمله من مضامين استعمارية إحلالية، وقيم عنصرية واستعلائية، وما تمثله من قوة احتلال غاشمة، وشكل من أشكال الظلم والتمييز والإقصاء، وقوة قهرية تسعى للتمدد والاستيطان ونهب أراضي الغير.. وهذه القيم السلبية وغير الإنسانية من صميم الأيديولوجية الصهيونية، ولا يلعب الدين فيها سوى دور الغطاء..
لذلك، يقع الخطاب الديني في خطيئة تحويل الصراع من سياسي إلى ديني، فهذا من ناحية يتلاقى مع أطروحات اليمين الإسرائيلي الصاعد بقوة، ويريحها، ومن ناحية ثانية فإن إضفاء البعد الديني على الصراع سيؤدي إلى تثبيت الرواية الصهيونية بشأن تاريخ اليهود وعلاقتهم المزعومة بفلسطين، وسيلغي البعد الإمبريالي للكيان الصهيوني، وَسَيُمَوِّه على حقيقة وطبيعة هذا الكيان وعلاقته بالمشروع الإمبريالي العالمي؛ ما يعني تقويض الأركان الحقيقية التي يقوم عليها الصراع، وتفريغه من محتواه السياسي، وتعطيل كافة أدوات العمل العسكري والسياسي والدبلوماسي التي لا تنسجم مع هذه الرؤية.
تاريخ فلسطين الحقيقي هو تاريخ كل من سكنها منذ الحضارة النطوفية، إلى الكنعانيين، مرورا بكل من غزاها، وترك أثراً فيها، ومن ارتحل إليها طوعاً أو حباً أو خوفاً، من زرع أرضها، وشق قنواتها ودروبها، وروى ترابها بعرقه ودمه.. هؤلاء جميعا هم الشعب الفلسطيني بكل تنويعاته وطوائفه وأصوله الجينية المتعددة.