مع الاختلاف في الطبيعة والأدوات، فإن دولة الاحتلال، ربما منذ العام 1967، لم تشن هجوما بهذه الشمولية على القضية الوطنية الفلسطينية وما تبقى من تعبيراتها المادية والحاضرة في ارض الواقع.
الاستعجال السريع جدا، هو لصيق هذه الشمولية، والعدوانية هي أداة التنفيذ بكل تجلياتها ووسائلها وتعبيراتها.
الهجوم يقوم على رؤية وقراءة دولة الاحتلال للواقع القائم على كل المستويات والمجالات المحلية والإقليمية والدولية.
والقراءة توفر لهم القناعة، ان هذا الواقع يقدم لهم الفرصة الأكثر ملاءمة، والتي لا يجب تفويتها، لشن الهجوم الأخير وتنفيذ ما تبقى من المهمة.
اهم مكونات الواقع القائم:
أولا، الوضع الدولي العام، وفي المركز منه الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب.
لجهة الوضع الدولي العام، فهو راكد في موقع اللافعل المؤثر بأي مستوى وفي أي أمر يخص دولة الاحتلال واستمرار احتلالها وتوسعها وعدوانها، وفي وضع الاكتفاء ببيانات عامة وصياغات فضفاضة بلا أي تأثير.
أما لجهة الولايات المتحدة، فإنها:
في موقع الاستعداد والجاهزية المعلنين بكل سفور وتحد للموافقة على، ودعم بكل الوسائل، طلبات وطموحات دولة الاحتلال وحتى شهواتها (القدس، الجولان، شرعية المستوطنات وتوسعتها، ضم مناطق «ج» ...).
إضافة الى كل الكلام المتناغم تماما على لسان «نتنياهو» ووزير حربه «بينيت» والسفير الأميركي لدى إسرائيل «فريدمان» وآخرين عن صفقة القرن، وما تعد به التسريبات حولها من كرم حاتمي تنعم به على دولة الاحتلال يصل الى درجة يمكن معها تلخيص الصفقة او إعادة تسميتها بأنها صفقة إنهاء الضفة الغربية وضمها لدولة الاحتلال.
ويقترب التناغم في أقوالهم من اكتساب طابع لاهوتي بالمنهج، وباللغة أيضا.
ففي الوقت الذي يعتبر فيه نتنياهو تفكيك أي مستوطنة في أي حل او اتفاق «تطهيرا عرقيا» فإن فريدمان يؤكد «ان المرحلة التالية بالنسبة للإدارة الأميركية بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وسيادتها على مرتفعات الجولان السورية هي الضفة الغربية .... واعتبر ان إسرائيل استعادت في حرب 1967 الضفة الغربية من الأردن الذي احتل الضفة لمدة 19 عاما».
أما بينيت فإنه يعلن ان الأرض المصنفة «ج» تخص إسرائيل، واعدا بتطبيق السيادة الإسرائيلية على جميع أجزاء هذه المنطقة... وان هدف إسرائيل خلال عقد ان يسكن الضفة الغربية مليون إسرائيلي.... ومتعهدا بالعمل على تنفيذ عمليات هدم واسعة النطاق في المناطق المصنفة «ج».
وأما في موقع الدفاع عن دولة الاحتلال، فإن الولايات المتحدة تقوم بذلك في جميع الهيئات والمؤسسات الدولية وتمنعها من اتخاذ أي موقف يدين دولة الاحتلال او أيا من ممارساتها مهما كانت مخالفتها للقوانين والقرارات الدولية فاضحة.
ثانيا، الوضع الفلسطيني شديد الضعف بذاته وإمكاناته وفي المركز منه حالة الانقسام بكل تعبيراتها وتأثيراتها المعروفة.
وشديد الضعف أيضا، بافتقاده المستوى المطلوب من الدعم والإسناد العربي الرسمي منه أولا ثم الشعبي. فالنظام العربي بشكل عام يبدو وكأنه في حالة غياب (او غيبوبة) عن الفعل والتأثير، ليس في الموضوع الفلسطيني فقط، وإنما أيضا في الأوضاع غير الطبيعية التي يعيشها الكثير من أقطاره.
وهو يتنازل عن دوره، او يربطه مع سياسات دول وقوى تنحكم بالأساس لمصالحها وتطلعاتها ومشاريعها في المنطقة، وبما ينسجم ويتقاطع مع استراتيجيتها الكونية.
ولا يمكن تجاهل مقدمات التغيير التي طرأت على نظرة بعض دول النظام العربي الى طبيعة ومستقبل العلاقة مع دولة الاحتلال، ولا تجاهل مقدمات التطبيع مهما كانت جنينية، وبشكل يسمح لدولة الاحتلال بتضخيم تلك المقدمات وتوظيفها لصالح فرض نفسها ضمن خارطة الاصطفافات الجديدة التي يجري تكريسها في المنطقة.
ثالثا، رؤية دولة الاحتلال لذاتها لجهة التنامي الملحوظ في قوتها وما يرتبط بها من إمكانات في العلم والتكنولوجيا. إضافة الى رؤيتها لنجاحها في تحقيق اختراقات تعتبرها نوعية مثل: تصدير الغاز الذي تستخرجه من الأراضي الفلسطينية المحتلة الى مصر والأردن. ومثل التوصل الى اتفاق مع الدول المعنية والبدء بتنفيذ مد خط ينقل الغاز الى العديد من دول أوروبا.
في مواجهة هذا الواقع القائم، بمكوناته المذكورة، فإن دولة الاحتلال لا ترى في إعلان المحكمة الجنائية الدولية حول محاكمتها على جرائمها، ما يشكل عاملا مانعا لها في الزمن الحاضر، او معيقا بقوة. وذلك، رغم بدئها اتخاذ إجراءات احتياطية جادة وشاملة لمواجهته وحماية نفسها ورموزها المسؤولة.
لكن إعلان المحكمة، إذا ما أخذ مداه الكامل في التنفيذ، فإنه يشكل نصرا حقوقيا وسياسيا مهمّا يمكن البناء عليه عاليا، بالذات إذا ما توبع بشكل مسؤول وجيد من الجهات الفلسطينية المعنية فيه بالدرجة الأولى.
ان ما يشكل عاملا مانعا حقيقيا وواقعيا ومتواصلا باستمرار في مواجهة الواقع المذكور هو موقف الشعب الفلسطيني بجماهيره وقواه المناضلة بكافة الأشكال والمستويات والوسائل. وباستعداد الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والمجتمعية وجماهيره وجاهزيتها الدائمة على النضال وتقديم التضحيات في مواجهة هذا الهجوم الشامل وإفشاله، ومواصلة النضال حتى استرداد كامل حقوقه الوطنية والتاريخية.
هذا العامل، هو ما يجب البناء عليه وتقويته، وهو ما سيفرض نفسه.