أن تتداعى الدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا وتركيا إلى برلين من أجل البحث في حل للملف الليبي، لا يعني أن الملف سيتم حله، خاصة بما يحقق مصلحة الشعب الليبي أولاً، ولا يعني أن لقاء برلين كان لقاء العدالة، خاصةً وأن معظم المشاركين في اللقاء إنما هم من شارك في خلق المشكلة بصراعهم حول النفوذ، وحول هبش جثة الدولة الليبية على مدار نحو تسع سنوات مضت.
هل يعني بأن اللقاء الاحتفالي كان مدخلاً لتقاسم النفوذ والتأكيد على الشراكة في تقاسم الكعكة، أم أنه كان شيئاً آخر. على أي حال، كل ما خرج به اللقاء هو دعم وقف إطلاق النار، أي منع الحسم العسكري الميداني الذي من شأنه أن يوحد البلاد المقسمة منذ سقوط نظام معمر القذافي، كذلك جاء اللقاء أصلاً بعد إعلان تركيا إرسال نحو خمسة آلاف مقاتل «سوري» مرتزق ممن تجندهم لصالح تمديد نفوذها في المنطقة، لذا فإن الأطراف المناوئة رأت عدم الرد بإرسال قوات موازية، ولكن بإقرار وقف إطلاق النار، والأيام القريبة القادمة ستظهر إلى أي مدى، يمكن للاتحاد الأوروبي خاصة لعب دور بين دورَي روسيا وأميركا في المنطقة.
الغريب في الأمر هو أن الدول العظمى، أي أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي من جهة، والدول الإقليمية مثل تركيا من جهة ثانية، لا تجدها كما كان الحال في الحرب الباردة مصطفة على جانبين، بل تجد تركيا مثلاً تتقاطع مع الأوروبيين في الملف الليبي والسوري، فيما تقف في ملفات أخرى دون اهتمام، أو اقرب إلى الموقف الروسي، وهكذا، لكن ما لا بد من قوله هو أن أميركا وكذلك الأوروبيون يهتمون بالثروة بالدرجة الأولى، وكما أن أميركا حصرت بقاءها في العراق وسورية في مناطق النفط، فإن اهتمام الأوروبيين بالملف الليبي مبعثه سعيهم للظفر بثروات ليبيا النفطية.
المهم أن الولايات المتحدة بالأساس تدفع شركاءها أو حلفاءها لمشاركتها فيما يمكن وصفه بالمغارم، وحين يأتي زمن المغانم فإنها تنفرد بالغنيمة أو أنها في أحسن الأحوال تأخذ حصة الأسد لذاتها، وتترك للآخرين البقايا الهامشية، وكذلك هي تسعى لإشراكهم حين تعجز هي منفردة عن إيجاد حل لمشكلة ما هي السبب في ظهورها، كما هو الحال بالشأن الفلسطيني، حيث إن آخر أخبار البيت الأبيض الخاصة بصفقة العصر، تشير إلى أن معدي الصفقة المشبوهة لم ييأسوا بعد من محاولة ترويجها، وأنهم يفكرون في طرحها قبل إجراء الانتخابات الإسرائيلية القادمة في الثاني من آذار القادم.
وبعد أن فشل جاريد كوشنير ورفاقه في إيجاد مخارج لتسويق بضاعتهم السياسية الفاسدة، خاصة في ظل شلل داخلي إسرائيلي، وكان من نتائجه استقالة أكثر من شريك في إعداد الصفقة، يجري الحديث عن أن الإدارة الأميركية تبحث مع الأطراف الدولية إمكانية طرحها قريباً.
واضحٌ إذاً أنه بعد أن فشلت أميركا في إيجاد طرف فلسطيني يتقاطع مع الصفقة، ثم فشلت في إيجاد طرف عربي كذلك يحمل على عاتقه ترويجها أو إقناع الفلسطينيين بمجرد تلقيها أو قراءتها، ها هي تبحث على الصعيد الدولي، لعل وعسى تجد لها شريكاً في تحمل وزر إعلان الصفقة ومن ثم دعم تطبيقها، أو على الأقل مشاركتها تحمل نتائج فشلها، حتى لا يقال إن ترامب الفاشل، ها هو يفشل مجدداً في الملف الفلسطيني، كما سبق له أن فشل في الملفات كافة: الكوري الشمالي، الفنزويلي، والإيراني.
وإذا كان كوشنير عراب الصفقة هو الذي يبحث بنفسه عن «شركاء» يدعمون صفقته، وذلك في مؤتمر دافوس، فان لقاء نائب ترامب مايك بنس مع نتنياهو في زيارته الحالية لإسرائيل سيبحث في إن كان طرح الصفقة سيفيد كلاً من ترامب الذي يواجه إجراء العزل من قبل الكونغرس، ونتنياهو الذي يواجه لوائح الاتهام الداخلي والانتخابات القادمة، أم لا، أي أن طرح الصفقة، بل إعدادها منذ البداية لا علاقة له بإيجاد حل لمشكلة الشرق الأوسط، ولا ينم عن مسؤولية تجاه المنطقة، ولا حتى ينطلق بدافع الحرص على المصلحة الأميركية ولا حتى الإسرائيلية، التي قال أكثر من طرف داخلي أميركي وإسرائيلي إنها تكمن في حل الدولتين وفي إقامة دولة فلسطينية، بل تهدف لتحقيق مكاسب شخصية سياسية لترامب ونتنياهو، لا أكثر ولا أقل.
في الحقيقة أن تنحدر السياسة الأميركية إلى هذا المستوى، ما هو إلا سبب إضافي للتسريع بهبوط الولايات المتحدة عن عرش قيادة العالم، ومن الواضح بأن الداخل الأميركي يعيش حالة مخاض، من أجل وضع حد لرئيس أرعن ومتهور، يرتجل في السياسة ويتخذ قرارات دراماتيكية، تحدث صخباً، وغير محسوبة بدقة، كذلك فان إسرائيل قد باتت تضيق ذرعاً بنتنياهو الذي تحول بالدولة إلى مصاف الدولة الطائفية اليمينية المتطرفة، وأعاد مجدداً حالة العداء الإقليمي تجاهها، بعد أن كانت قد انفتحت بوابة السلام لها منذ ربع قرن مضى، بالاتفاق مع (م ت ف).
ولا نبالغ إن قلنا إن هذا الثنائي المتطرف سياسياً والخارج عن إطار المقبول السياسي الدولي والإقليمي ونقصد به كلاً من ترامب ونتنياهو قد باتا كابوساً للكثير من البشر، بما في ذلك الكثير من مواطني دولتيهما، لذا فان حالة التراوح والعجز التي يمران بها على صعيد اتخاذ وتنفيذ القرارات، ما هي إلا مقدمة لسقوطهما وخروجهما من مسرح السياسة، التي باتت تضيق ذرعاً، بكل منتج استبدادي، وبكل مظاهر الجبروت السياسي، الذي يواصل الثنائي ترامب_نتنياهو العزف السياسي عليه، بحيث يمكن القول بكل ثقة، إن عصرهما الذهبي قد ولى دون شك، وان القادم بالنسبة لهما أسوأ بكثير من الحاضر، والحقيقة انه إذا كان الرجلان لم يسقطا بعد عبر صناديق الاقتراع، أي بالدافع السياسي، فإن سقوطهما عبر القضاء إنما هو خيار أسوأ لأنه يظهرهما على حقيقتهما كمتهمَين وخارجَين على القانون، وربما بل على الأرجح لن يقتصر الأمر على مساءلتهما القضائية الداخلية، بل سيتعدى ذلك حتى بعد خروجهما من موقع المسؤولية إلى القضاء الدولي.