انفردت إدارة ترامب في احتكار حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر المشروع المسمى صفقة القرن، ورغم انحيازها المطلق لدولة الاحتلال بالأقوال والأفعال، ورغم تنكرها للرؤية الدولية التاريخية لحل هذا الصراع والمدعمة بكم هائل من القرارات الدولية، إلا أن إدارة ترامب بقيت اللاعب الوحيد الذي امتلك مشروعاً سياسياً يتضمن شطب حق تقرير مصير للشعب الفلسطيني وتدمير حقوقه الوطنية. لم تؤيد أكثرية دول العالم صفقة القرن، وبخاصة الدول الأوروبية وروسيا والصين، إلا أنها لم تقدم مساراً بديلاً للصفقة واتبعت سياسة انتظار الإعلان عنها. بعض الدول مارست ضغوطاً على السلطة الفلسطينية مطالبةً إياها بانتظار ما سوف يتمخض عنها من حل، انتظار مضى عليه اكثر من عامين، وهو قابل للتأجيل بحسب ما تستدعيه الأوضاع الداخلية الإسرائيلية غير المستقرة والتي تشهد 3 انتخابات للكنيست في أقل من عام واحد. في هذا السياق يجري التداول بشأن الإعلان عن صفقة القرن إذا ما ساعد ذلك في تعزيز فرص نجاح معسكر نتنياهو في الانتخابات.
وهذا يعني ان النظام الدولي ومعه النظام العربي لا يزالان يسلمان بالاستفراد الأميركي حتى بنسخته الترامبية المتنكرة للحقوق الفلسطينية المشروعة. ولما كان ترامب يملك آلية لترجمة مشروعه قوامها الأموال والعقوبات، فإنه لن يتورع عن كيل المزيد من العقوبات على الشعب الفلسطيني، بما في ذلك تشريع ضم دولة الاحتلال لكل المناطق المحتلة غير المكتظة بالمواطنين الفلسطينيين، وذلك في حالة الرفض الفلسطيني للصفقة.
الوضع الفلسطيني في حالة شائكة لا يُحسد عليها، وقد أصبح جزءاً من حالة انتظار الصفقة التي لا تحتاج الى انتظار. عندما لا يتغير الآخرون او يتغيرون نحو الأسوأ، فمن المنطقي ان نغير أحوالنا كي نكون قادرين على الاحتمال والصمود في وجه تسونامي الصفقة. التغيير يشمل اسلوب حل التناقضات الداخلية، فالوضع الفلسطيني الداخلي يشهد تفككاً وضعفاً يؤثر سلباً على مستوى التماسك والمناعة والقوة. التغيير يبدأ بإبداع الحلول والتسويات الداخلية، وتحويل الشيء غير المألوف وغير العادي الى عادي اذا أردنا صد الخطر الداهم والحفاظ على سلامة المركب الذي يحملنا جميعاً. مثلاً كيف تتوقف اندفاعة «حماس» نحو اتفاق التهدئة؟ وضمان ربط مصير قطاع غزة بالضفة الغربية.
في البدء من المنطقي عدم الذهاب الى حرب مواجهة غير متكافئة مع دولة الاحتلال، حرب تلحق خسائر فادحة بأبناء القطاع، وخسائر قليلة ورمزية بدولة الاحتلال. لتكن هدنة من طرف واحد بمعزل عن الطُعم الذي يقدمه المحتلون بثمن باهظ هو فصل الضفة عن القطاع وتعميق الانقسام الفلسطيني. لا شك ان ذلك يتطلب مساهمة فلسطينية خلاقة في حل الضائقة الاقتصادية الحادة في القطاع وإعطاء أولوية له، يترتب عليها تعديل في موازنة السلطة لمصلحة قطاع غزة. لا معنى ولا مبرر لتفاوض «حماس» سواء كان مباشراً او غير مباشر مع المحتلين الإسرائيليين اذا اقتصر على قطاع غزة واغفل قضية الاحتلال للأراضي الفلسطينية في العام 67 بكل عناصرها، اللاجئون والقدس والمياه والدولة والاستيطان.. إذا أرادت «حماس» التفاوض فمن المفترض ان يكون التفاوض على كل القضية، وسيكون مكانها الطبيعي في دائرة المفاوضات المنبثقة عن منظمة التحرير. مع أن التفاوض فقد مكوناته منذ ردح طويل، فدولة الاحتلال وسيدها ترامب يعملون بمفهوم الحل المفروض من طرف واحد بدون تفاوض ولا موافقة فلسطينية بحسب نمط غطرسة القوة. الحل الذي يريدون فرضه لا يحتاج الى تفاوض، ولا يوجد مبادرات دولية وعربية تستدعي العودة للتفاوض مرة أخرى. في غياب التفاوض يصبح التقارب الفلسطيني تحصيل حاصل اذا ما تحرر من عقد الفئوية والفئويين. الآن المطروح إسقاط حل الصفقة. وبالقدر الذي تستشعر فيه القوى خطورة الصفقة بالقدر الذي تضم فيه الصفوف وتشارك في مقاومتها وإحباطها. لماذا لا يكون لدينا برنامج سياسي من بندين: الأول هو إسقاط صفقة ترامب، والثاني هو إعادة بناء العامل الفلسطيني الداخلي.
التعامل مع القضية الاجتماعية بحكمة وبمسؤولية، وحل التناقضات التي تساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي وتقدم فلسطين للعالم بمستوى غير حضاري. لقد شوش الموقف المتزمت الرافض لاتفاقية «سيداو» الثقافة الدينية وتراث الشعب الفلسطيني العقلاني والمنفتح على العالم. وللأسف ساهم رجال دين وسياسة واتجاهات نقابية وتنظيمية في التشوش وفي جلب السوء للمجتمع الفلسطيني. وإذا كان من الطبيعي وجود خلاف في القضايا الاجتماعية والدينية، كما في القضايا السياسية والثقافية، فإن وجود او وضع معايير غير ملتبسة يساهم في ايجاد الحلول. على سبيل المثال خضعت فلسطين كما العالم العربي والإسلامي لتأثير المدرسة الدينية المتزمتة التي تحرّم وتكفر باسم الدين، والتي ساهمت في انبثاق التنظيمات المتطرفة امثال «القاعدة» و»داعش» و»بوكو حرام» و»طالبان» وعشرات التنظيمات الاخرى. وفي الوقت الذي بدأت فيه المراجعات والتصويبات للفكر التعصبي المتطرف في بلدان عربية واسلامية عديدة، فإن فلسطين للاسف ليست جزءاً من هذه المراجعة، ولهذا السبب يطرح في فلسطين التنكر لـ «سيداو» والتراجع عنها ورفض رفع سن الزواج الى 18 عاماً، واعتبار ذلك مخالفاً للشريعة الإسلامية. وبدلاً من تفنيد المؤسسة الدينية لهذه الاحتجاجات، حاولت التماهي معها، مغلبةً بذلك النقل عن فقهاء عاشوا في عصور قديمة، على تحكيم العقل، والأخذ بالاعتبار للتطور الاقتصادي الاجتماعي الذي قلب الحياة ومتطلباتها بمستوى جذري. المواقف المتماهية مع التطرف أحدثت فجوةً بين الموقف الرسمي وامتداده في مؤسسات السلطة والمجتمع المدني، وقد تتعمق الفجوة إذا لم تتم معالجتها قبل فوات الأوان. لماذا بقيت فلسطين تنتمي لهذه المدرسة المتزمتة المسيئة للدين ولفلسطين في وقت واحد. نحن بحاجة لاستبدال الترهيب والتهديد والتحريض ضد المنظمات النسوية و»سيداو» والفن والحريات والنساء بشكل عام الى الحوار والمحاججة والنقد. بحاجة الى التوقف عند المراجعات الدائرة من قبل علماء دين ومدارس التنوير في العالمين العربي والإسلامي.
بقي القول، هل يجوز القبول بتعطيل دولة الاحتلال للانتخابات العامة كونها لم تسمح بحق ممارسة المقدسيين لحقهم الانتخابي؟ من المفترض العمل على إزالة المعيق الإسرائيلي، بمختلف الطرق والوسائل. لأن تطوير البنية المؤسسية الداخلية يعتبر من أهم مقومات الصمود ومقاومة صفقة القرن وتقوية المناعة السياسية والاقتصادية والثقافية للشعب الفلسطيني.