(1)
شيءٌ ما يحيّرني، ربما هو الصباح الذي لا يتوقف عن المجيء، ألا يسأمُ منا؟ شيءٌ ما يُخيفُني، ربما هو بلادُنا التي تدق أبوابَنا كل يوم، ألا تضل الطريق إلينا؟، شيءٌ ما يكسرني، ربما هو الموسيقى التي تكافئنا كل لحظة، ألا تغضب منا؟ شيءٌ ما يُقلقني، ربما هو دم الشهداء الذي يحيا كل لحظة في نصوصنا، ألا يموت أبداً؟ شيءٌ ما يسحرني، ربما هو أمي التي تفكر بي كل يوم، ألا تنسى؟ شيءٌ ما يُميتني، ربما هو هروب تلاميذي مني في الشوارع وهم يبيعون البوظة وأغلفة الهويات، ألا يتذكرونني وأنا أبيع الترمس ذات طفولة باردة؟. شيءٌ ما يُثيرني، ربما هو يدُكِ الصغيرةُ حين تُخرجينها مضرجةً بالنار والأطفال والفراشاتِ من جيب معطفك في ذروة ضباب وشارع وبرد، ألا تعرف يدُك أنها بوابةُ موتي وصباحي؟. شيءٌ ما يُغلقني، ربما هو عدم انقراض الطغاة حتى الآن، ألا ينتهون أبداً؟ شيءٌ ما يخونُنا معاً، ربما هو أن اسمي ليس هو اسمك، ألا تفهم الأسماءُ مرةً أنها محضُ أنا وأنت؟
(2)
لا شيءَ نحن دون هذا الأثر. ( قزدورتنا) الأسبوعية رفقةَ قهوةِ وبرد ومساء رام الله الحبيب مع صالح. ما هي السعادةُ يا صديقي إن لم تكن أثراً نتركه على وجه الحياة.؟ أسألُ صالحاً فلا يجيب، فقط، يُغمض عينيه ويرفع رأسه وكأنه يذوب في شيء ما. أجمل ما يصادفنا في المدينة طلابي وطلاب صالح وهم يصافحوننا بحرارة فنشعر أننا محظوظان جداً، والأجمل من ذلك هو صدفةُ أن يكون طالب صالح في الجامعة هو نفسه طالبي في المدرسة، حينها نوشك على البكاء تأثراً ونحن نكتشف أننا نتقاسم بناء الوجدان نفسه. هذا ما نريده منك يا رام الله، فقط احتفظي لنا بالأثر، ورتبي لنا بأسلوبك العظيم صُدَف اللقاء مع آثارنا، وخذي صقيعَ النفوذ والمناصب والمال والترقيات وجاه الانتماء للعشيرة وللفصائل، واتركينا نتدفأ على حب ودهشات ومصافحات وابتسامات طلابنا الرائعين في برد المدينة الدافئ. دُلّوني على أحدٍ ما أغنى منا؟
(3)
في مدينتي ثمةَ جامعُ قمامة ستيني، طيبٌ حدَّ أن لا أحد يراه، يُلقي التحايا على الناس وكأنه يعرفهم واحداً واحداً، فلا يبادله إياها أحد، وحين يقضم اليأس جسدي وأطرافاً من روحي، أخرج من البيت كالمعتوه باحثاً عنه في مساء مدينتي الوحشي لأحظى بمهرجان دفئه، أمرُّ من أمامه، يتلقفني قلبُه فأغرق في الله. أعطوني شخصاً في عصر رام الله المعدني يتنكر في هيئة جامع قمامة، مهنته إلقاء التحايا المسائية الحارة للناس دون أن يستاء لأنهم لا يبادلونه إياها.
(4)
(شتاءٌ في قميص رجل) أحب هذا النص، سخونته التي ما زلت أحسها في قلبي تعذبني، ما زالت هيفاء الكاذبة الرائعة، هناك تلعب أمامي وتدّعي حبي تارةً وحب سامر مرة أخرى، ليس لهذه القصة نهاية أصلاً، هي قصة كل الناس، الخيبات والوطن المخنوق والألم والخداع والصبر والطفولة الملساء مثل عشبٍ على أطراف نهر. قليلون من يعرفون أن هيفاء صارت بدينة جداً، هي تعيش في دبي الآن، مع زوج ثري للغاية وعشر أبناء وبنات، وقليلون جداً مَن يعرفون أن سامر استُشهد عام 2005 برصاصة طائشة من مستوطن في مستوطنة (بسغوت) القريبة من مدرستي ومن مكان القصة، كيف تنتهي قصةٌ يُستشهد فيها أجمل أبطالها؟. هي حكايةٌ مفتوحةٌ على مليون حكاية، هي حكاية فلسطين، حكاية طفولة أطفال فلسطين. فكيف تنتهي؟ كيف؟ أظن أنني الوحيد في فلسطين الذي لديه سبب آخر للرغبة (غير حرية وكرامة بلاده) في زوال مستوطنة (بسغوت) هو أنا، آه كم أود أن أعثر على ورقة هيفاء التي كتبت فيها اسم الشخص الذي تحبه، هناك تحت صخرة، بالقرب من برج المستوطنة!