منذ صعود اليمين الإسرائيلي لسدة الحكم (1977)، دخلت الصهيونية في مرحلة جديدة، تمثل حالة انقطاع عن المراحل السابقة، وذلك بتحويل إسرائيل (وعقيدتها الصهيونية) إلى دولة نيوليبرالية، وتجليات ذلك: تفكيك دولة الرفاه، الخصخصة، تكثيف الاستيطان، والنزوع إلى المزيد من اليمينية، وهيمنة التيار الديني (بشقيه الصهيوني واللاصهيوني) على الدولة والمجتمع.
وهكذا، أخذ المعسكر اليميني الحاكم يضع بصماته على المشروع الصهيوني ويغير في تصميمه بشكل أكثر وضوحا في دمويته وعنصريته من المشروع الصهيوني التقليدي الذي أنتجه المعسكر العمالي. ويرتكز المشروع الحالي على «قيم» اليهودية، كونها الرابط الأساسي للمجتمع (قانون القومية اليهودي)، وعلى تعظيم وزيادة قوة إسرائيل واستمرار تفوقها في الإقليم (الجدار الحديدي).. فهل هذا تغير وتطور في الصهيونية، أم تطبيق أمين وحرفي لمبادئها الأصلية، المستمدة من التلمود والتوراة؟
اليمين الإسرائيلي يرسم ملامح ما يسمى «الصهيونية الجديدة» التي تقوم على أرضية الصهيونية الدينية، والرواية التوراتية، ويضع بشكل مكشوف «الديموغرافيا»، و»الحفاظ على الأغلبية اليهودية»، وفكرة «تفوق اليهود»، فوق منظومة حقوق الإنسان، وفوق القانون الدولي، وبذلك يستبدل تفوّق العرق الأبيض الذي ميز الحقبة الاستعمارية العنصرية في القرن الماضي بتفوق اليهود.
فهل هذا تغيير في الأيديولوجيا الصهيونية، أم أنها تكشفت على حقيقتها؟ إذا كانت الإجابة بالنفي، فأين هي تلك المضامين الإنسانية والتحررية والاشتراكية التي طالما تحدثت عنها أدبيات الحركة الصهيونية، خاصة في فترتي اليشوف، وبدايات تأسيس إسرائيل.
اليوم، تتزايد انتقادات الصهيونية من أكثر من جهة: المعسكر اليميني الديني الذي رفض الصهيونية من بدايتها، من منطلقات دينية، اليمين الديني الصهيوني، المؤمن بفكرة الخلاص (المسيانية) يتساءل عن أي خلاص تسعى إليه الصهيونية، بعد أن قامت دولة إسرائيل، وصارت متاحة ليهود العالم ليأتوا إليها! أما الأرثوذوكسية اليهودية غير المتصهينة، فهي لا ترى في الصهيونية، ولا في إسرائيل أي شكل من الخلاص، بل تراهما عائقين أمام الخلاص الحقيقي، المتمثل بعودة المسيا.
كما تتعرض الصهيونية لنقد اليسار (رغم ضعفه وخفوت صوته) الذي يرفض ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ويرى أنها تسيء لصورة إسرائيل «الديمقراطية»، وتجرح مقولة «طهارة سلاح، وأخلاقيات الجيش»، وتتعارض مع القيم الحضارية التي اعتقد أنها من صميم الصهيونية.
في ظل تعثر التسوية وموتها سريريا، نشأ جدل واسع في الأوساط الإسرائيلية عن احتمالات تطور الصراع، وإمكانية قيام دولة واحدة بعد ضم إسرائيل للضفة الغربية. وكيف سيؤدي هذا الخيار إلى فقدان الدولة طبيعتها اليهودية، وتحولها إلى دولة ثنائية «القومية»، أو تحول إسرائيل إلى «جنوب أفريقيا» ثانية، أي دولة «أبارتهايد»، أو تحول اليهود إلى أقلية، انطلاقًا من حقيقة فشل مشروع «الأسرلة».. في خضم هذا الجدل ظهر فريق من العلماء والمؤرخين والمثقفين، يطلق عليهم تيار «ما بعد الصهيونية»، وقد أثار هؤلاء تساؤلات حول مستقبل المشروع الصهيوني، وهل هناك ضرورة لاستمرار الصهيونية بعد قيام إسرائيل؟
ثم تزايد نقدهم لمشروعية الصهيونية، ومبررات استمرارها باعتبار أنها حققت هدفها الرئيس، وهو إنشاء وطن قومي لليهود في «فلسطين»، وبهذا تكون قد أدركت غايتها، ولم يعد مبررا ادعاؤها بإنقاذ يهود العالم، فالجماعات اليهودية في مختلف الدول لا تتعرض الآن لأي نوع من الاضطهاد، وبالتالي حان الوقت للنظر والتفكير فيما بعد الصهيونية.
مصطلح «ما بعد الصهيونية» ظهر مطلع التسعينات، حين تداعت نخبة من المؤرخين والباحثين وأخذت تتساءل عن العقيدة الصهيونية والسياسات الإسرائيلية، ومدى أخلاقيتها. وهؤلاء طعنوا في الافتراضات التي وضعتها الصهيونية وحاولوا إعادة محاكمتها تاريخياً واجتماعياً؛ أي من منظور علمي وتاريخي وإنساني.
ويرى هؤلاء «المؤرخون الجدد» أن الدولة والمجتمع الإسرائيلي يجب أن يتحررا من وصاية وهيمنة الصهيونية، التي انتهى دورها، وحسب هؤلاء فإن جوهر «ما بعد الصهيونية» يتضمن ضرورة إعادة كتابة تاريخ إسرائيل والحركة الصهيونية، وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي بصورة محايدة وموضوعية، والإقرار بأن الصهيونية فشلت في  تحقيق الدمج والصهر لشتات اليهود في أنحاء العالم، وأنّ إسرائيل لم تستوعب غالبية اليهود (نسبة اليهود المقيمين في إسرائيل تشكل 43% من مجموع اليهود في العالم)، وأنَّ دولة إسرائيل قامت على أساس غير طبيعي (في سياق المشروع الإمبريالي الاستعماري)، وليس علي أساس العقد الاجتماعي، أو نتيجة تطور طبيعي. وهؤلاء لا يدعون لتدمير إسرائيل، بل ينادون بضرورة إقامة المجتمع الإسرائيلي الجديد علي أساس العدل والمساواة وعدم التمييز، فالتوسع والاستيطان، وتهجير السكان (الفلسطينيين) إجراءات تعسفية لا تتفق مع مفاهيم العدل والحرية، ولا تقوم على أساس أخلاقي. ويرى هؤلاء أيضا أن إسرائيل مشروع استعماري تغيب عنه الأخلاق، وأن إسرائيل ولدت منغمسة في الخطيئة، ولا بد أن تتخلى عن طابعها القومي اليهودي العنصري، وأن تصبح دولة ذات قوميتين، يهودية وعربية، على أساس المواطَنة، تنتمي لثقافة حوض البحر المتوسط، وتبنى على قاعدة أخلاقية وتتخلى عن القوة كقاعدة للدولة، وتتحرر من السياسية الاستعمارية، التي ورثتها عن الغرب، ويرون أيضا أن قيام إسرائيل مثل كارثة ونكبة للفلسطينيين. (أمينة سالم، «الصهيونية الجديدة»).
تلك الكتابات أتت في سياق جدل ثقافي سياسي واسع في مسألة ما بعد الحداثة في إسرائيل، ولكن بشكل ثوري جديد، فانتقاد الصهيونية كان يتم تحت عناوين حقوق الإنسان، وليس ضمن أسس أيديولوجية معارضة للصهيونية، أو ضمن مواقف سياسية داعمة للفلسطينيين.
هذه المجموعة أثارت غضب الصهاينة على الرغم من غموض توجهاتها وانطلاقاتها الأيديولوجية، وهم مجموعة غير متجانسة وليسوا تيارا موحدا، أبرزهم: إيلان بابيه صاحب كتاب «التطهير العرقي في فلسطين»، وجون ميرزهايمرد صاحب كتاب «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية»، وسارة روي الباحثة في جامعة هارفارد، مؤلفة كتاب «إعادة صياغة فلسطين». (زياد منى، «ما بعد الصهيونية»).
ويمكن إضافة بعض المؤرخين الإسرائيليين الذين نقضوا الرواية التوراتية برمتها، منهم: شلومو ساند، في كتابه «اختراع الشعب اليهودي». وميخائيل هرسيغور، في كتاب «إسرائيل/ فلسطين الواقع وما وراء الأساطير». وإسرائيل شاحاك، في كتاب «التاريخ اليهودي، وطأة ثلاثة آلاف سنة». وإسرائيل فنكلشتاين، في كتاب «التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها»، وغيرهم..
على أرض الواقع، تيار «ما بعد الصهيونية» محدود العدد والتأثير داخل إسرائيل وخارجها، بينما تظل الصهيونية بكل ما فيها من عنصرية مشروع إسرائيل الكبير، الذي يحظى بدعم الغرب الاستعماري.