في العقد الأخير من القرن الماضي حصلت احداث ادت الى تحولات على المستوى العالمي والإقليمي والفلسطيني. فبسقوط الأتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو وتفكك دوله تحول النظام الدولي من ثنائي القطبية الى احادي القطبية، وكان احد تداعيات ذلك الحدث التاريخي الغزو الأمريكي للعراق واحكام السيطرة على نفط وثروات الخليج العربي واسقاط العراق من معادلة الصراع مع اسرائيل، ومعاقبة منظمة التحرير الفلسينية بحجة أن منظمة التحرير وياسر عرفات تحديداً وقف مع صدام حسين، فتم فرض حصار مالي على م.ت.ف وتمت الدعوة الى عقد مؤتمر للسلام في مدريد من اجل حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على اساس قراري مجلس الأمن الدولي 242، 338، دون اشراك مباشر ل م.ت.ف، رغم انها اعترفت علناً بالقرارين المذكورين، والذي يعني الأعتراف باسرائيل في حدود 1967. هذا يعني القبول بتغيير قواعد قرار التقسيم لعام 1947 والإعتراف بالوقائع التي فرضتها اسرائيل بالقوة على الأرض باحتلالها ل78% من مساحة فلسطين التاريخية في حرب 1948.

وتمت ممارسة ضغوط عربية ودولية على م.ت.ف من أجل الإستجابة للشروط الإسرائيلية الأمريكية للسماح لها بالمشاركة بمؤتمر السلام في مدريد، الذي عقد في نهاية أكتوبر 1991، من خلال وفد فلسطيني اعضاؤه من الأرض المحتلة وبوفد مشترك مع الأردن. ولكن لم يحصل اي تقدم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المنبثقة عن مؤتمر مدريد. وتم فتح قناة سرية للتفاوض بين اسرائيل ومنظمة التحرير بوساطة نرويجية أدت الى توقيع ما عرف باتفاق اوسلو.

كانت هنلك جهود اسرئيلية وأمريكية لخلق بديل لمنظمة التحرير مستعدة للتفاوض مع اسرئيل بعيداً من المنظمة التي يجمع الشعب الفلسطيني على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وقد حاولت اسرائيل منذ سنوات الإحتلال الأولى خلق بديل ل م.ت.ف، فحاولت استخدام رجالات الأردن ولم تفلح وتم حسم هذا الخيار في الإنتخابات البلدية عام 1976 ، ثم حاولت عن طريق خلق روابط القرى والتي صنفها الشعب الفلسطيني بأنها عميلة للإحتلال وفشلت. وحاول الإحتلال تشجيع بعض الشخصيات الوطنية على اتخاذ مواقف بعيدة عن منظمة التحرير واجراء لقاءآت سياسية مع سلطات الإحتلال ولكن كل تلك المحاولات لم تنجح في انتاج بديل عن م.ت.ف ولذلك وجدت انه لا بد من التعامل معها، ولذلك قبلت اسرائيل بالمفاوضات السرية.
وقد كان عرفات يرى أن مهمته التاريخية هي تحويل منظمة التحرير من وطن معنوي للشعب الفلسطيني الى كيان على الأرض يصل في نهاية الطريق الى دولة في حدود الرابع من حزيران 1967 ، وقد قبل الإنخراط في اوسلوا على هذا الإساس، وكان في تقديري، جاداً في التوصل الى سلام مع اسرائيل على اساس حل الدولتين وكان يعتقد بأن اسرائيل تعبت من الأنتفاضة وتريد السلام، وقد قبل عرفات ومعظم قيادة م.ت.ف باتفاق اوسلو ومن بعده اتفاق القاهرة على علاتهما على اعتبار أنها اجراءآت مؤقتة مدتها خمس سنوات وبعدها نصل الى الدولة، وقد حاول البعض تخويف عرفات من قيادات الأرض المحتلة بانها ربما ستذهب لحل مع اسرائيل وترك المنظمة جانباً. وفي تقديري أن ذلك كان نشاط استخباري للضغط على عرفات للقبول بشروط اوسلو وحسم تردده في التوقيع على الإتفقات المبرمة.

وبعد اغتيال رابين وانتخاب نتنياهو وحزب الليكود كان هذا مؤشراً بأن أغلبية المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو التطرف ولا يرغب في السلام مع الفلسطينين. وفي الأصل فان حزب الليكود صوت في الكنيست ضد اتفاق اوسلو، وكان نتنياهو المحرض الأكبر لاغتيال رابين، وعمل منذ اللحظة الأولى للتراجع عن الإتفاق وعدم تنفيذ استحقاقات اوسلو مثل الإنسحاب من الخليل وغيرها من مراحل اعادة الإنتشار. وكان فشل اجتماعات كامب ديفد بين عرفات وايهود براك تحت رعاية الرئيس الأمريكي كلينتون ودخول شارون للمسجد الأقصى القشة التي قصمت ظهر البعير. وصل عرفات الى قناعة بأن اسرائيل قد تخلت تماماً عن اتفاق اوسلوا، فأراد عرفات ان يرسل رسالة للاسرائلين مفادها، أنكم اذا قررتم التراجع عن اوسلو فانني سأعود الى الكفاح المسلح، وانفجرت الإنتفاضة الثانية التي كان نتيجتها هو الإجتياح الإسرائيلي للمناطق المصنفة أ في اتفاقيات اوسلو والتي يفترض أن تكون تحت السيادة الفلسطينية الكاملة، وحصار الرئيس الفلسطيني  ياسر عرفات وانتهاءً باغتياله بالسم.

سبق عملية الإغتيال المادي لعرفات اغتيال معنوي، من خلال ترويج مقولة أن عرفات هو عقبة في طريق السلام وأنه مجبول على العنف والمقاومة وأن تنحيه سيفتح الطريق أمام الفلسطينين للحصول على الدولة، واقد اشترى عدد من القيادات الفلسطينية هذا الزعم وربما كانوا سعداء باختفاء عرفات عن المسرح السياسي الفلسطيني. وحاولت القيادة الجديدة أن تمارس نهجها وقناعتها المبنية على وهم تم تكريسه من قبل الأمريكان والإسرائيلين، وعلى الأرض عمل الإسرائيليون على تدمير أي فرصة لقيام دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل بتسريع عملية الإستيطان وتهويد القدس والاجتياحلت المتكررة للمسجد الأقصى لفرض واقع جديد يصب في تهويد القدس وصولاً لاعتراف امريكي بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل.

هذا الى جانب العمل على تصفية قضية اللاجئين من خلال محاربة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين وسن قانون القومية العنصري الذي اعتبر أن فلسطين التاريخية هي ارض اسرائيل وأن حق تقرير المصير فيه حصرياً لليهود وبذلك شرع نظام ابرتهايد ضد الشعب الفلسطيني واقام نظام معازل للفلسطينين في مدنهم وقراهم ومخيماتهم تقام عليها بوابات حديدية تغلق وتفتح حسب مزاج الجندي الإسرائيلي، وصولا الى الضم الفعلي لغور الأردن والقيام بعملية تطهير عرقي للفلسطينين فيه، والإعلان عن النية بالضم الرسمي للغور ولكل التجمعات الإستيطانية وتطبيق القانون الإسرائيلي عليها وهذا يعني استحالة اقامة كيان فلسطيني متماسك وانتهاء حلم قيام دولة فلسطينية في جزء من فلسطين التاريخية.
وفي المقابل اين تقف القيادة الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينة وأين يقف الشعب الفلسطيني من هذا الواقع الذي وصلنا اليه.

- لا يوجد رؤية سياسية واضحة تقوم على استراتيجية وطنية محددة المعالم لديها معسكر أعداء ومعسكر اصدقاء، وسياسة واضحة تجاه معسكر الأعداء ومعسكر الأصدقاء. بل احياناً يتم الخلط بينهما مما يجعل الموقف الفلسطيني متخبطا وغير منسجم في سياق واحد.
- الحركة الوطنية مقسومة على نفسها رغم أن الجميع يدرك تماماً أن هذا الإنقسام يخدم استراتيجية العدو بابقاء الإنقسام وتعميقه جغرافياً ونفسياً حتى لا نبدو امام العالم كشعب موحد وحتى يصبح مستحيلاً اعادة اللحمة للشعب الفلسطيني وبالتالي ليس مؤهلاً للحصول على دولة مستقلة. ليس مهما من يتحمل المسؤولية، المهم دوام هذا الوضع هو مسؤوليتنا جميعا، وكارثة وطنية ستحل بالأجيال القادمة التي ستلعن كل من شارك في الوصول الى هذا الوضع. هذا الوضع خلق قيادات تمارس السياسة كأنها زعامة عشيرة أو مختار قرية أو حارة وليس كزعامة وطنية تفكر بهم الوطن والمواطن واستعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.

- لقد اصبح هناك على ضفتي الوطن طبقة لا يهمها الوطن بقدر ما تهمها امتيازاتها الشخصية ومصالحها ومصالح اعوانها الى درجة ان يصبح العدو اقرب لهذه الفئة من ابناء الشعب.
- الشعب يراقب ويعد كم وحدة استيطانية اعلن عنها وكم مستوطن اقتحم الأقصى اليوم وكم بيت هدم وكم دونم صودرت وكم شهيد سقط هذا اليوم. وامام هذا الإحباط القاتل اصبحنا لا نفكر ابعد من يومنا الذي نعيشه، وفاقدين لاي قدرة على الإبداع اوالمبادرة الجماعية كشعب رغم وجود حالات ابداع فردية ولكنها تبقى فردية.

وعلاوة على ذلك فالاقليم كله يعج بالحروب بدءاً من سوريا الى اليمن الى ليبيا والدول العربية منقسمة كل محور يدعم هذا الطرف وآخر يدعم الطرف المقابل، فتدمر البلاد ويقتل الألآف من المواطنين العرب ويهجر الملاين وتنهب الثروات. والزعامات العربية يتم تحريكها كعرائس الدمى على المسرح من خلال خيوط غير مرئية. ولم تعد اسرائيل هي العدو المركزي للأمة العربية بل تم استبدالها بايران والتهديد النووي المزعوم.

هذا الوضع المثالي لاسرئيل لكي تكمل المشروع الصهيوني الذي يحلم بالسيطرة على الشرق الأوسط وشطب القضية الفلسطينية الى الأبد، مدعومة بادارة أمريكية اكثر صهيونية وعنصرية من الصهيونية ذاتها. وسيتم تتويج تصفية القضية الفلسطينية بما يعرف بصفقة القرن، التي من الواضح انها لن تضيف الى الواقع كما هو اليوم أي شيء بل ستعطي شرعية لهذا الواقع وتثبته كأمر واقع يعكس ميزان القوى الراهن.
وفي ظل هذا الواقع الشاذ يبقى السؤال : ما العمل؟ هذا السؤال برسم الإجابة منا كشعب وكحركة وطنية وكنخب أينما كنا لصياغة استراتيجية وطنية جديدة تعبر عن ارادة ومصالح الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، في الأرض المحتلة عام 1948، والأرض المحتلة عام 1967 وفي الشتات في مواجهة نظام الأبرتهايد المفروض علي شعبنا وفي مواجهة المشروع الصهيوني.