قد يكون الإعلان عن خطة الإدارة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط أفضل من ذلك الغموض الذي اجتاح المنطقة حول أمرها منذ بدء الحديث عن «صفقة القرن». وأن تكون تلك الخطة ملتصقة بظاهرة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، فبالإمكان التسليم، دون أي تقليل من شأن الحدث، بأن الصفقة المعلنة لا تعدو عن كونها، بدورها، ظاهرة لا ترقى إلى مستوى تحول تاريخي يمكن في إطاره الحديث عن تسوية لأكثر القضايا التاريخية تعقيداً في العالم.
يتحدث ترامب عن الصفقة – الخطة بصفتها اقتراحاً للسلام. والسلام في معناه البديهي يُنسجُ بين متخاصميْن، فيما أن «الخصم» الفلسطيني غائب، وأن غيابه هامشي في روحيّة ما توصل إليه فريق صهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر. الأمر أوقح من أي مبادرات دولية، أميركية خصوصاً، سبق عرضها، بالتداول مع الفلسطينيين والعرب، وأكثر السيناريوهات غباء في إرساء سلام بين الشعوب، بحيث لا تلمس في ثناياها الحد الأدنى من العصب العتيق لفلسطين والفلسطينيين في تاريخ العالم وجغرافيته.
والخطة تتقدم بصفتها حكم الأقوياء على الأقل ضعفاً. وفيما تجاهر إسرائيل في غيّها احتلالاً وضماً للأراضي وتشييداً للمستوطنات ورفعاً للأسوار ونشراً للحواجز وتقطيعاً لحياة الفلسطينيين، تأتي الولايات المتحدة لتتقدم بما يشرّع كل ذلك أميركياً، ويجعله قانونياً تحت عنوان إقامة السلام.
وفلسطين بمعناها التاريخي مقتطعة بقرار أممي جائر أباح تمرير مبضع يقسم الأرض بين يهود وعرب عام 1947. وهي مقتطعة بحكم القوة في الحروب التي خيضت منذ عام 1948. وهي مقتطعة بين مناطق ثلاث أباح اتفاق أوسلو رسمها بانتظار الحل النهائي. وفي ما تُطل به خطة ترامب وصهره، «تبارك» واشنطن كياناً أهلياً لا دولة، تقام على ما تبقى من أراض بعد أن يصار إلى اقتطاع ما تم البناء عليه استيطاناً وما يلزم الدولة العبرية لدواعي الأمن والمياه والاقتصاد والرموز الدينية.
على ذلك تتحول فلسطين الدولة في معادلة الصفقة إلى منطقة عقارية لا تشبه أي كيان سياسي في العالم. لا عسكر ولا دبلوماسية ولا استقلال في التعاقد مع دول العالم. وعلى ذلك لا يشبه «الحل النهائي» ما سبق أن خطّته الاتفاقيات الدولية وقوانين الأمم المتحدة، وما ثبتته الرباعية الدولية وما جعله المجتمع الدولي سقفاً لأي وفاق. وعلى ذلك تنفذُ واشنطن إعداماً موصوفاً للمبادرة العربية للسلام (2002) التي ما برح العرب في ليلهم ونهارهم، فرادى ومجتمعين، يكررون التمسك بها كقاعدة تتم من خلالها مقايضة الأرض بالسلام.
«صفقة القرن» هي إحدى سمات الزمن الشعبوي الذي داهم هذا العالم خلال السنوات الأخيرة. بات الشعبويون يتبادلون الخدمات، بحيث ترتسم قناة خصوبة بين تلك الشعبوية التي جسّدتها على نحو صاعق إطاحة دونالد ترامب بالأوبامية وَوَرَثتها، وتلك الشعبويات التي راجت في بريطانيا وإيطاليا وأنحاء عديدة من أوروبا، مروراً بالبرازيل والفلبين ودول أخرى. في تلك الشعبوية الأميركية الإسرائيلية نزوع للتسويق للمستقبل بما تيسر من أدوات الراهن، وبيع للسيئ بصفته أفضل من الأسوأ. وفي ذلك ما يُسرد هذه الأيام عما خسره الفلسطينيون والعرب من رفضهم خلال العقود الماضية لما هو ممكن، وعما سيخسرونه حكماً إذا ما رفضوا صفقة ترامب المعجزة.
والصفقة في حقائقها المعلنة هدايا تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل الحليفة وتحتفل بها بحضور إسرائيل الدولة بشخص حاكمها ومعارضه. وهي بهذه الصفة مناسبة ثنائية أميركية إسرائيلية تشبه في فجاجتها سوقية الصديقين الحميمين، ترامب ونتنياهو، ناهيك عن كونها مناسبة تهمل دعوة الفلسطينيين، ليس فقط لأن المدعوين لن يصفقوا للعرس ولن يباركوا العروسين، بل لأن الصفقة في أصلها لا تحتاج أي بركة خارج حدود العائلة التي اجتمعت في حفل إعلانها.
ورغم أن فضائياتنا تصدح بالحدث، ورغم أن منابرنا تتنافس في لعن الأمر الواقع المرفوض، إلا أن الحدث لن يعدو كونه حدثاً ينتهي ضجيجه مع انتهاء أي ضجيج وتتبخر مفاعيله مع الأسباب التي فرضت توقيت إعلان كان بالإمكان أن يجري قبل عام أو بعد عام. سيجابه ترامب محاكمته وسيجهد لمنع خلعه عن حكم بلاده. وإذا ما نجح، وواضح أن الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ستعينه على تحقيق ذلك، فإنه سيخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة دون أن يقلقه، حتى الآن أي منافس. وسيجابه نتنياهو تهم الفساد التي تحاصره عفناً. وإذا ما تمكن من ذلك، فإنه سيتمكن من جديد من خوض انتخابات آذار التشريعية، ممهوراً بصدقة «صفقة» قدمها له ترامب على صحن من هواء.
صفقة القرن لا ترتبط بمزاج العالم الراهن. هي ترتبط بمزاج ترامب الشخصي ومصيره. لن يكون للصفقة أي وجود إذا ما أطاح الديمقراطيون بترامب وهم الذين يجاهر بعضهم في الاستخفاف بالمولود العائلي الهجين. ولن تكون للصفقة لزوميتها في الولاية الثانية لترامب إذا ما فاز في تلك الانتخابات. حتى أن في الكلام عن فترة انتقالية من 4 سنوات قبل تنفيذ الصفقة تلميحاً لولاية رئاسية أميركية تنتهي فتنتهي معها روائحها. وفي هزال صفقة يرتبط بقاؤها بمصير اللاعبين، ينكشف عري خطة السلم التي، للمناسبة، ورغم الزلزال الذي تحدثه في منطقتنا، لا يأخذها العالم، كل العالم، على محمل الجد.
لا يمكن للدول أن تتدخل في شؤون الولايات المتحدة في ما تتخذه من قرارات تصدر عن رئيسها، أو قوانين تصدر عن برلمانها. اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالجولان جزءاً من أرض إسرائيل. أغلقت واشنطن مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في المدينة وقطعت تمويلها للأونروا واتخذت تدابير عدائية ضد فلسطين، فكرة ووطناً وشعباً ومصيراً. بالمقابل رفضت بلدان العالم تلك الموجات الأميركية المشوشة وراحت، من خلال تمسكها بالثوابت الدولية المتعلقة بفلسطين، تدافع عن نفسها ضد تسيّب قد يطال قضايا ومسائل أخرى. وعلى هذا بقي همس الصفقة متلاشياً في فراغ لا يحظى برعاية أوروبا ولا اليابان ولا الصين وروسيا.. إلخ، وللمفارقة الكبرى لا يحظى برضا الكونغرس وعتاة الشأن الشرق أوسطي في الولايات المتحدة.
جال جاريد كوشنر وأصحابه كثيراً على دول المنطقة. تنقل من عاصمة عربية إلى أخرى تاركاً وراءه كماً كثيفاً من التسريبات. اكتفت العواصم بالإصغاء، ولم تصدر عن أي عاصمة أي رواية رسمية تشي بمباركة ما لما ترسمه الصفقة في نصوصها. وحين كان مطلوباً أن يحدد العرب مجتمعين موقفاً، قالوا ذلك، بمناسبات روتينية لا تستدعي أي طارئ، أن النظام العربي الرسمي متمسك بمبادرة السلام وبدولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وبقية الديباجة المعتمدة.
وإذا ما تركنا الحديث عن العامل الفلسطيني إلى سطورنا الأخيرة، فذلك أنه العامل الأهم الذي في بديهة وجوده ما يمكنه، لوحده، أن يقرر عيش أي صفقة من موتها. والصفقة بهذا المعنى عبق يتقزز له الفلسطينيون هذه الأيام دون أن يهتز لهم بال في أن أي تسوية نهائية تحتاج إلى توقيع فلسطيني مازال غائباً.
ورُبَّ متأمل في حقيقة أن الولايات المتحدة التي تعجز عن حماية سفارتها في بغداد لا تستطيع أن تفرض على الفلسطينيين والمنطقة صفقة مرتجلة على عجل يراد لها أن تبتلع التاريخ.