الخطاب الذي ألقاه الرئيس محمود عباس، بعد دقائق من انتهاء خطابَي ترمب ونتنياهو، لم يعجب كثيرين ممن توقعوا من الرجل، وبعد ما سمع، أنه سيتخذ قرارات دراماتيكية في التو واللحظة.
سبب هذا التوقع هو ما سبق إعلان واشنطن من تهديدات أطلقها وجهاء الطبقة السياسية الفلسطينية، ومركزها إلغاء «أوسلو»، وسحب الاعتراف بإسرائيل، وإنهاء التنسيق الأمني، وتصعيد عمليات الانفكاك التام عن إسرائيل، واستبدال الدولة بالحكم الذاتي، وحل السلطة، ونقل وظائفها لمنظمة التحرير.
عناوين كهذه تندرج تحتها مئات القرارات السياسية والإدارية، التي تجسد - في حال اتخاذها - انقلاباً شاملاً وجذرياً على ما هو قائم، دون ضمان لنجاح ما سيأتي.
الطبقة السياسية الفلسطينية التي أمطرت العالم بتصريحات من هذا النوع، تعاني من قلة الدراية بالرئيس عباس وكيف يفكر، حتى لو تحدث كثير منهم باسمه. فقد دلت الوقائع على أن ما يتحدثون به هو مجرد استنتاجات غير صحيحة. فهم جميعاً - وإن جلسوا على مائدة تسمى القيادة - لا يعرفون شيئاً. (هم يقولون هذا في جلساتهم الخاصة).
التشدد الذي انطوى عليه خطاب الرئيس عباس كان ضرورياً، للرد على المشهد الذي انطلق من واشنطن في ذلك الثلاثاء، الذي وصف - لمجرد الدعاية - باليوم الفاصل بين الأمس والغد.
الرئيس عباس من جانبه، واصل وصف ما تقدم به ترمب بالصفعة، وذهب بتشدده حد الوعد بالرد عليها بصفعات ستأتي في المستقبل. ولقد خدم الرئيس عباس تشدد الخطاب برفض مكالمة الرئيس ترمب، والامتناع عن تسلم رسائله، وهذا سلوك وإن اختلف القوم على جدواه، فإنه وفق التراث السياسي الفلسطيني يناسب اللحظة؛ بل ويعتبر تطوراً تجاوز مقولة عرفات حين وقعت الواقعة بينه وبين الإدارة الأميركية؛ حيث قال: «أنا الوحيد الذي قال لا لأميركا في البيت الأبيض»
محمود عباس، في ثنايا خطابه الحار الشديد اللهجة، واصل توجيه رسائل الاعتدال للقوى العربية والدولية التي يحتاجها، إن لم يكن لتحقيق الأهداف الرئيسية - وهذا ليس وقته الآن - فمن أجل البقاء في المعادلة الإقليمية والدولية؛ خصوصاً أن الرصيد الفلسطيني في هذه المعادلة لا يزال متوفراً، ويستحق المحافظة عليه وتجنب التفريط فيه.
تشدد الخطاب لم يحجب التزام الاعتدال، وما يحب العالم سماعه من الفلسطينيين قاله عباس بصريح العبارة: «نحن مع المفاوضات»، ولم يقترب من المحرمات التي حددها أقطاب الاعتدال الإقليميون والدوليون، التي ورد ذكرها في مطلع هذه المقالة على لسان وجهاء الطبقة السياسية وتهديداتهم.
حتى الرسالة الشديدة اللهجة التي وجهها الرئيس عباس لنتنياهو، لم تتضمن قرارات نهائية محددة، وإنما اقتراب من إمكانية الاضطرار لاتخاذ هذه القرارات، حال تواصل انقلابات نتنياهو على المعادلات التي أنتجتها «أوسلو»، وبلغت حد تطبيق «صفقة القرن» من جانب واحد، وأول ما يؤذي في هذا السياق، ما هو مطروح الآن من ضم لمنطقة الأغوار الشديدة الحساسية؛ ليس بالنسبة للفلسطينيين وحدهم، وإنما للأردنيين كذلك، وبالإضافة إلى هذا فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على جميع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية.
في قراءتي لموقف الرئيس عباس، لفت نظري أن الرجل بحاجة إلى بعض الوقت لبلورة مواقف محددة، وربما تكون نهائية. ولقد منح نفسه هذا الوقت، داخلياً بفتح ملف المصالحة، بما في ذلك التلويح باحتمال زيارة غزة، وعربياً من خلال المشاركة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب المزمع عقده اليوم (السبت) في القاهرة؛ بحيث يتسنى له معرفة المواقف الحقيقية من أفواه أصحابها. غير أنه ومن خلال المؤشرات الأولية للموقف العربي، يعرف بأن هذا الموقف يحمل جديداً هذه المرة، فإلى جانب الإجماع على دعم الحقوق الفلسطينية، وعدالة الموقف الفلسطيني، هنالك تباين واضح حول كيفية معالجة «صفقة القرن».
القطبان الأكثر تأثيراً في السياسة الفلسطينية الرسمية، هما السعودية ومصر، وما أعلن رسمياً من قبل هذين القطبين يدعو الرئيس عباس إلى التريث في اتخاذ أي إجراءات تفتقر إلى غطاء هذين القطبين. فنقطة الاتفاق المتبلورة حتى الآن هي نصح الفلسطينيين بالتريث والتبصر، وهذا يتطلب بداهة نقاشاً مباشراً مع القطبين العربيين، قبل الإقدام على قرارات نهائية.
عباس - حتى لو ذهبنا إلى أبعد حد في التبسيط واختراع الآمال - يواجه مأزقاً مركباً، فالفلسطينيون - أهل بيته - لا يزالون منقسمين على أنفسهم، وحتى زيارة غزة الدراماتيكية لو تمت فلن تكون نهاية الانقسام؛ بل في أفضل الأحوال ستكون البداية على طريق طويل، والوضع العربي من حوله أكثر وأفدح من منقسم، أما الوضع الدولي الذي يتحفظ على «صفقة القرن» فعباس أكثر من يعرف الفرق بين الموقف والقدرة على فرضه، ما دام الطرف المقابل هو أميركا.
الرئيس عباس يعرف ذلك أكثر من غيره، ويعرف بأن الحالة الفلسطينية بكل مكوناتها تقف الآن أمام اختبار مفصلي، ولا شك في أن مواهب القادة والساسة تظهر في الظروف الصعبة، وفي القدرة على الخروج من المآزق.
الأمور ليست مغلقة بصورة نهائية، فلو أحسن الفلسطينيون استخدام ما لديهم - حتى لو كان قليلاً - فما يمكن ضمانه موضوعياً هو البقاء في المعادلة، وهذا أقصى ما يمكن تحقيقه في هذا الزمن الذي يوصف - بعد تلطيف مبالغ فيه - بالرديء.