بعد تضاعف عدد سكان بغداد، وتفاقم الأعمال والحركة التجارية فيها، أدرك الخليفة العباسي ومن حوله من الأمراء والوزراء أن من الضروري إقامة جسر يربط بين الجانبين من المدينة. وعند زيارته لبغداد لاحظ ابن بطوطة وجود هذا الجسر. وقد وصفه بأنه قائم على مراكب مربوطة بسكة حديدية إلى خشبة على كلا الجانبين. ولاحظ أن الناس كانوا يعبرون عليه ليلاً ونهاراً، ورجالاً ونساءً. قال: «وهم في ذلك في نزهة متصلة». والظاهر أن الجسر، حسب وصف ابن بطوطة، كان بمثابة نادٍ اجتماعي. كان الباعة يبيعون عليه الحلويات والمكسرات والمشروبات. وكان الماجنون يتحرشون ويتربصون للنساء، والشحاذون يشحذون، والآخرون يستروحون بالتفرج على النهر والحسان المارات. وبوحي ذلك جاء البيت الشهير لابن جهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
مرت غادة كحلاء على الجسر، فصاح بها أحد الماجنين: يرحم الله ابن جهم! التفتت إليه وقالت: ويرحم الله أبا العلاء. مضت في طريقها فسألوا الشاب ما هذا؟ فأجابهم ذكرتها بكلمات ابن جهم «عيون المها بين الرصافة والجسر»، فأجابتني وذكرتني بقول المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال!
لم يكن العشاق فقط على هذه الدرجة من التأدب. حتى الشحاذين على الجسر كانوا يراعون فقه اللغة. قال أبو جعفر البرتي مررت بسائل على الجسر وهو يقول: مسكيناً، ضريراً. فدفعت إليه بقطعة وقلت له لم نصبت؟ فقال: فديتك، بإضمار ارحموا!
نشأت عبر القرون ثروة ضخمة من التقاليد والحكايات والنكات والطرائف حول كيان هذا الجسر. ما زال الناس يرددونها رغم مضي نحو قرن من الزمن على إزالة هذا الجسر الخشبي. كثيراً ما تعرض في أيام الفيضان إلى الانجراف مع كل ما عليه من بشر وعربات وحيوانات بفعل التيار القوي، اعتاد الناس عندئذ أن يأتوا بجوق موسيقي شعبي من طبول وزمارات ليستحثوا الجسر للعودة لمكانه. طبعاً تعيده السلطات إلى مكانه فيتصور الجمهور أنه عاد بفعل الموسيقى، مما يدل على إيمان الشعب العراقي بفعل الفنون الموسيقية!
على خلاف هذا الجانب المرح من الجسر، يوجد أيضاً الجانب المأساوي له. فقد جرت فوقه الكثير من المعارك والمذابح بين الفئات والمحلات المختلفة من أهل بغداد، وكذلك بين هذه الفئات والسلطة. كما وجد البعض فيه منصة جاهزة للانتحار بإلقاء أنفسهم في النهر. واعتادت السلطات تعليق المشنوقين على عمود في رأس الجسر ليكون عظة للآخرين. هكذا تم إعدام الوزير ابن بقية الذي أمر الخليفة المعتضد بإعدامه. علقوه على الجسر فمر به الشاعر ابن الأنباري فرثاه قائلاً:
علو في الحياة وفي الممات
لحق أنت إحدى المعجزات
مددت يديك نحوهم احتفاء
كمدهما إليهم بالهبات
ولعب الجسر دوراً خطيراً في الحياة السياسية للبلاد. وكان هم الحكومة أن تحكم إغلاقه أثناء الأزمات، خوفاً من تدفق الغوغاء من جانب الكرخ إلى الرصافة، لينهبوا ويحطموا ما في طريقهم. وكثيراً ما كانت الشرطة تفتح النار عليهم لردعهم. وقد شهدت مثل هذه الأحداث مرتين في حياتي.