أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطته الجديدة للسلام التي عمل عليها لثلاث سنواتٍ، وكان طبيعياً أن تثير جدلاً كبيراً وواسعاً بسبب طبيعة القضية التي تعالجها وتعقيداتها المتعددة، وهو جدلٌ مستحقّ دون شكٍ، ويبقى السؤال الكبير: ما موقف الشعب الفلسطيني من هذه الخطة؟
عبّر الرئيس عباس عن موقف مبدئيّ رافض للخطة برمتها حتى قبل الإعلان عنها، وتبعه على ذلك غالب قيادات الفصائل الفلسطينية، وكثير من الرموز الفلسطينية في الداخل والخارج، وهم في الغالب قياداتٌ هرمت على متابعة الهزائم والخسائر على مدى عقودٍ طويلة للأسف.
بعد فقدان الوطن راهن الشعب الفلسطيني على التعليم وطناً فخلق جيلاً شاباً متعلماً بشهاداتٍ وتخصصات مميزة، وقد آن الأوان أن يجدوا لهم فرصة للتعبير عن أنفسهم وينخرطوا في قيادة بلدهم والتفتيش عن حلول خارج الصندوق تتسم بالواقعية والعقلانية، وتسعى لتحقيق أفضل المكاسب مع طموحات يرعونها ويتابعونها في الواقع والمستقبل ليكملوا المهمة ويواصلوا المشوار.
رحبت دول عربية عديدة بجهود إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في محاولة إيجاد اختراق لتحريك عملية السلام الأطول في تاريخ المنطقة، وهو ترحيب مهمّ، نظراً للحاجة الملحّة لإيجاد نهاياتٍ واقعية تجاه هذه القضية المهمة.
القضية الفلسطينية قضية عادلة بمعيار الحق، وقضية خاسرة بمعيار الواقع، هذا حالها منذ بدايات القرن الماضي وصولاً إلى اليوم، وعلى طول التاريخ وعرض الجغرافيا كان الواقع يفرض نفسه على الحق، هذه واحدة من سنن التاريخ.
لدى السلطة الفلسطينية خيارات متعددة دون شكٍ، ومنها: الرفض المطلق للخطة أو الصفقة والتمسك بالحق الديني والتاريخي، وهو الموقف المعلن حتى الآن، لكنه قد يتغير لاحقاً لأن السياسة هي فن الممكن وليست فن المستحيل، أو القبول والتفاوض على مبدأ «خذ وطالب»، أو الحل الجذري، وهو الإعلان عن انتهاء عملية السلام برمتها والعودة لما قبل اتفاقية أوسلو، ما يعني خروج السلطة والفصائل إلى الخارج، وبقاء الشعب على ما كان عليه قبل أوسلو.
ثمة متغيرات كبرى جرت في ساقية التاريخ والمنطقة، فإسرائيل لم تعد الدولة المحتلة الوحيدة هنا؛ فإيران تحتل أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وتركيا تحتل مناطق في سوريا وليبيا، هذا أمرٌ، والانقسام الفلسطيني الحاد لأكثر من عقد من الزمان أمرٌ آخر، فقد مثّل فشلاً تاريخياً محبطاً، وخلق واقعاً ضرب القضية العادلة في مقتل.
ومتغيرٌ آخر بالغ الأهمية، وهو أن الشعوب العربية بعضها انشغلت كلياً باحتلال بلدانها من إيران أو تركيا، والأولوية لدى هذه الشعوب تكمن في مواجهة الفوضى والإرهاب، ولم تعد القضايا الأخرى تعني لها الكثير، وثمة شعوبٌ بدأت تتململ وتصاب بالإحباط جرّاء الدعم اللامحدود للقضية الفلسطينية، وقيام تياراتٍ ورموزٍ فلسطينية في الوقت نفسه بالتهجم على بلدان تلك الشعوب، ودولها، والاصطفاف مع الأعداء، وأوضح مثالٍ هو دعم «حماس» لإيران ضد العرب.
ما يقوله الواقع اليوم أن قداسة القضية الفلسطينية لم تعد كافية لإقناع جيل الشباب العربي الجديد، ولا يمكن لهذه القضية أن تكون في موضع استغلالٍ من أحد.
ظلت الدول العربية، وبالذات دول الخليج العربي، تدعم القضية الفلسطينية بكل ما تملك، ولكن المتغيرات في المنطقة والعالم بأسره بدأت تثير الأسئلة عن أن الدعم الكبير يخول المساعدة في اتخاذ القرار، وهو ما سيتطور لاحقاً باتجاهات قد لا ترضي السلطة الفلسطينية.
عدد الرئيس عباس في خطاب غاضب عدداً من القرارات الأممية الداعمة للحق الفلسطيني، كما سرد عدداً من الدول التي تؤيد الحق الفلسطيني، وهو صدق في هذا التعداد، ولكنّ السؤال الملحّ هو: ماذا صنعت هذه الأعداد من القرارات والدول للقضية الفلسطينية؟ في الحقيقة لا شيء، لا شيء أبداً غير مزيدٍ من الخطابات والتعاطف دون أي نتيجة سياسية أو اقتصادية، وأي مراهنة على هذا ستكون جموداً على ما كان من قبل، دون أي أفقٍ مستقبلي.
حين تكون الخيارات بين السيئ والأسوأ؛ فليس بيد الشعوب ولا الساسة الكثير لفعله، فكيف إذا ثبت أن الانتظار يحول الأسوأ إلى مزيد من السوء، وهو للأسف ما جرى ويجري في فلسطين منذ عقودٍ ليست بالقصيرة.
في استعراض سريعٍ؛ ففي عام 1947 وما بعده طرح بعض العرب أن يخرج الفلسطينيون من وطنهم ليتسنى ضرب إسرائيل بشكل حاسم من قبل بعض الدول العربية، وهو ما رفضه الملك عبد العزيز وبعض العقلاء، لأنه لم يكن واقعياً ولا عملياً، كما فشلت فكرة إرسال قوات لمساندة الفلسطينيين آنذاك.
في الخمسينات جاءت القومية والناصرية وتيارات اليسار بفكرة تحرير فلسطين «من النهر إلى البحر»، وتبعتها التيارات البعثية في الستينات، وبدأ تاريخ المزايدة على تحرير فلسطين الذي أفقد الفلسطينيين أي قدرة على قبول الحلول العملية المطروحة التي قُبل فيما بعد بما هو أقل منها بكثير.
تعددت الفصائل الفلسطينية في تلك الفترة، وأصبحت تُقاد من أنظمة شعاراتية، وتسلطت على بعضها البعض قتلاً وتفجيراً وتدميراً، وطال ذلك بعض الدول العربية وبعض العمليات الإرهابية حول العالم التي تستهدف المدنيين، وصولاً إلى هزيمة 1967 النكراء.
تفشت الشعارات والانقسامات بعد تلك الهزيمة، ودخلت جماعات الإسلام السياسي على الخط، وأضافت شعاراتها، ولم يكسب سوى الرئيس المصري أنور السادات الذي كان واقعياً وعقلانياً وعملياً، فخاض الحرب بنية السلام وانتصر في حرب 1973، وفاوض على السلام وانتصر في السلام، كما انتصر في الحرب، ورفض كل الشعارات والمزايدات ونجح.
في الثمانينات، رفض المزايدون من العرب «مشروع فهد للسلام» الذي يمنح الفلسطينيين مكاسب أكثر بكثير مما قبلوه في أوسلو لاحقاً، واضطر الفلسطينيون للرفض والانسياق خلف أولئك العرب.
مطلع التسعينات، وافق الفلسطينيون على اتفاقية أوسلو 1993، ووقع الأردن معاهدة سلام كذلك، وفي مطلع العقد الأول من القرن العشرين وافقت الجامعة العربية على اقتراح السعودية الذي أصبح يُعرَف بـ«المبادرة العربية».
أخيراً، هل في هذه الخطة إجحافٌ في حق فلسطين؟ نعم، كما حصل في أوسلو من قبل، ولكن الواقع أقوى من الحق، ثمة فرصة يمكن خلقها عبر استغلال مساحات التفاوض، وتحسين الشروط، ضمن خطة فلسطينية عملية يمكن أن تجد دعماً واسعاً لو حصلت.