لا أحد يصدق بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية، حين يطلق تهديده باجتياح غزة حتى قبل انتخابات الكنيست، ذلك أن الاهتمام بملف غزة هذه المرة، أي قبل هذه الانتخابات التي تجري للمرة الثالثة خلال عام دون تشكيل الحكومة، ليس مثل سابقه، حيث شهدت فترة ما قبل الانتخابات السابقة لغطاً حول غزة، خاصة بين نتنياهو وافيغدور ليبرمان، فزعيم اليمين الإسرائيلي نفسه، اضطر قبل إجراء الانتخابات السابقة في سياق رده على منتقدي سياسته تجاه "حماس" في غزة إلى الاعتراف بأنه رعى الانقسام الفلسطيني منذ البداية، وأن "إسقاط" حكم "حماس" ليس هدفاً له، أما لماذا تشهد هذه الأيام "تصعيدا محدودا" في غزة، فلذلك أسباب أخرى، لا علاقة لها بالانتخابات الداخلية الإسرائيلية .
مجمل القول، يمكننا أن نقول إن مجمل الملف الفلسطيني بكل بنوده وتفاصيله، ليس مجال نقاش بين المتنافسين الإسرائيليين، خاصةً بين المعسكرين الكبيرين، ولا حتى على جبهة اليسار، وباستثناء القائمة العربية، فليست هناك قائمة انتخابية أو حزب إسرائيلي، يتحدث بشيء يخص الملف الفلسطيني، ولا أحد يرفع شعاراً أو يعلن موقفاً يتعهد فيه بالتوصل إلى اتفاق سلام، فالسلام مع الجانب الفلسطيني لم يعد هدفاً لا لليمين ولا لليسار ولا لخصوم اليمين، الذين بالكاد وبشكل خجول، يعلنون عن موقف يبتعد قليلاً عن موقف اليمين بهذا الخصوص، وذلك يعود إلى الإبقاء على احتمال تشكيل حكومة تحتاج إلى شبكة أمان القائمة العربية.
أما ما يخص "التصعيد" خلال الأيام الأخيرة، فلا بد أولاً من ملاحظة أنه محدود ومضبوط ومحدود جداً، وهو يعود بتقديرنا إلى شعور "حماس" بأنها قد تعرضت لخديعة، أو أنها باتت مهملة، لا يهتم بها أحد، فبعد أن أوقفت مسيرات العودة، التي كانت تحدث صخباً ما، وتحرك المياه الراكدة في ملف الحصار، لم يتقدم الجانب الإسرائيلي بأية إجراءات تذكر مقابل هذا التنازل من "حماس" الذي ربما تكون قد قدمته مقابل السماح لرئيس مكتبها السياسي بإجراء الجولة الخارجية لأول مرة منذ انتخابه في المنصب الأول للحركة.
واعتادت إسرائيل وحتى سكان ما يسمى بالغلاف، على "إزعاج" صواريخ "حماس" التي لا تصيب أحداً منهم بضرر، كما أن حديث "حماس" عن الوحدة الداخلية بعد إعلان خطة ترامب، أيضاً لم يدفع الجانب الإسرائيلي إلى تقديم شيء للحركة لردعها عن الذهاب لخط النهاية في ملف الانقسام، فمثل هذه المواقف قد تكررت، والتكرار لا يعني بالضرورة أن يتم الرد عليه بنفس الطريقة المعتادة.
الآن، وبعد الصخب السياسي والإعلامي الذي أحدثه إعلان ترامب الأسبوع الماضي، الخاص بخطته لحل الصراع التاريخي الفلسطيني/الإسرائيلي، فإنه يمكن القول بكل ثقة_ بأنه كما سبق وقلنا في مقالنا السابق هنا_ فإن إعلان "صفقة القرن" مصيره مثل ورشة المنامة، لن يفتح باب التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أساسه، كما أنه، وهذا هو الأهم، لم ينجح في فتح كوة في الجدار العربي رغم كل ما فيه من تصدعات، فالقيادة الفلسطينية كانت ذكية بما يكفي، لتتجنب إعلان الرفض منفردة، بل أعلنته بكل قوة عبر الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وفي انتظار جلسة مجلس الأمن بعد أيام، سيكون التفاعل السياسي والإعلامي مع الإعلان قد وصل ذروته، أي لن يتقاطع معه أحد، وسيبقى "إعلاناً إسرائيلياً/أميركياً" احتلالياً، مثل كل القرارات العسكرية الإسرائيلية الخاصة بمصادرة الأراضي وهدم المنازل وقتل المواطنين، لكنه أيضا، يكون قد أدى مهمة خطرة، وهي إنهاء مرحلة أوسلو، وإغلاق مسار الحل عبر التفاوض، والذي شق طريقه أصلاً بعد كفاح عسكري وشعبي فلسطيني توج بانتفاضة العام 1987 .
أي أن الملف سيعود إلى ميدان المواجهة، لكن هذه المرة مسنوداً بكفاح دبلوماسي وسياسي، بعد أن تعززت فكرة حل الدولتين، على الصعيد العالمي، والتعامل الدولي مع حق فلسطين بإقامة الدولة المستقلة على حدود العام 67 .
وفي انتظار ترتيب المنطقة من جديد، في سياق صراعات كونية تذهب إلى تجاوز مرحلة التفرد الأميركي بقيادة العالم، سيبقى الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي بوصلة هذه الترتيبات، ولعل إسرائيل بخلط الأوراق، وفتح كل الحدود الإقليمية، تدرك هذا بشكل جيد، بالمقابل فإن الشعب الفلسطيني، بات يدرك بشكل متزايد حاجته إلى الاستمرار في الصراع على كافة المستويات، وأن الحل الناجم عن طاولة التفاوض بات بعيد المنال، لكن ما على الجميع إدراكه هو أن الشعب الفلسطيني الذي ما زال الوحيد في هذه الدنيا الذي هو في حالة حركة تحرر، عليه أن يشتق طريق كفاح حركة التحرر بشكل مختلف عما كان عليه حال حركات التحرر في ظل الحرب الباردة، أي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هدوء مشوب بالحذر، أو هدوء مترافق مع صراع متواصل، قد لا يكون عنيفاً أو صاخباً، لكنه متواصل ومستمر، هو ما سيكون عليه الحال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خلال السنوات القادمة، حيث بات إسقاط الاحتلال الإسرائيلي، مثل إسقاط الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط، أي أن أداته هي الشعب بكل شرائحه ومكوناته، وطريقه حثيث ومتواصل، ونهايته تكون بإحداث التراكم ولا يكون بضربة سحرية واحدة، لا سياسية ولا عسكرية.
ولقد أثبتت الأحداث السياسية خلال السنوات القليلة الماضية، بأن لا أحد، مطلق الإرادة، فلا إسرائيل ولا أميركا ولا أي نظام أو قوة، يمكنه أن يحسم الأمور منفردا، أو بشكل تام أو نهائي، وحيث أن المنطقة تمور بالمتناقضات، فإن فشل معظم الفرقاء في التوصل إلى حلول سياسية في كل ملفات الصراع بالمنطقة، يؤكد بأن ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، ليس مختلفاً، بل إنه يكاد يكون الصورة المختصرة لها كلها، لذا على جميع الأطراف الفلسطينية، أن لا تهدأ، بل أن تواصل الصراع، ولكن وفق إستراتيجية طويلة النفس، تدرك بأن إنهاء الاحتلال ليس في متناول اليد، كما هو فرض الاستسلام ليس في متناول يد العدو أيضاً، وهكذا دون الطرفين حقبة من الصراع متعدد الأشكال، وبعضها لم نشهد مثيله من قبل، لكن القضية التي لا تموت تنتصر في نهاية الأمر.