كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء. سبقني صديقي الدبلوماسي، سفير إحدى العواصم العربية المهمة في القاهرة إلى مطعم شهير بحي الجيارة بمصر القديمة. جلس إلى طاولته، هاتفني ليخبرني بأنه موجود بالمكان. زحام المرور عرقل وصولي إليه مدة 12 دقيقة. صافحته بحرارة معتذراً عن تأخري، ثم جلسنا وهو يشيد بروح هذا المكان الذي يزوره للمرة الأولى.
بينما أتجول بنظري باحثاً عن العاملين بالمطعم، باغتني الصديق الدبلوماسي قائلاً: إن الجالسين إلى الطاولات مهتمون بالكلام حول الأحداث السياسية بالمنطقة، وكأنهم يتحدثون عن مباريات كرة القدم. قلت له: معك حق، الأحداث متلاحقة؛ بل مخيفة، وملاعب العرب صارت سياسية. فرد متعجباً: «لكن اللاعبين غير عرب». تعلَّقت هذه الجملة بعقلي؛ لكني حرصت على أن تكون جلستنا بعيدة عن الكلام في هموم السياسة ودوامة العمل اليومية لصديقي الدبلوماسي. تبادلنا الحديث حول موضوعات أخرى تتعلق بالأحياء التاريخية في مصر، مثل التي كنا نجلس بها. انتهى اللقاء.
انطلق الصديق إلى حيث يذهب، بينما ظلت معي جملته: «اللاعبون غير عرب»؛ لأجدها نتيجة واقعية للأهداف التي تم تسديدها طوال العقدين الماضيين في شباك العرب. في مصر وليبيا وسوريا والعراق واليمن، وأخيراً في الهم التاريخي المتعلق بدولة فلسطين. مدرب اللاعبين وضع خطة محكمة غير محددة بوقت.
حبس العالم أنفاسه انتظاراً لخطة السلام التي أعلنها الأيام الماضية الرئيس الأميركي دونالد ترمب. حانت الساعة الخامسة مساء بتوقيت غرينتش. لا نحتاج إلى دليل لإثبات التدخلات الخارجية. بقاموس الإرادة، فإن الأمل لا يزال قائماً؛ لكن تحقيقه يتطلب شروطاً قاسية، في مقدمتها وحدة الفلسطينيين. جغرافيا التاريخ تترقب بحذر رسم خريطة جديدة لجغرافيا المستقبل.
انفكت عذرية التطاول على المنطقة يوم 20 مارس (آذار) عام 2003، عندما سوَّق الرئيس الأميركي بوش الابن مبرراته أمام الرأي العام الأميركي لغزو العراق، تحت لافتات الخلاص من أسلحة الدمار الشامل، وتحرير الشعب العراقي. سقطت بغداد في أيدي الأميركان. تعرضت جدران العراق لهزات وزلازل لم يكن أحد يتوقعها. نهم النفوذ ضاعف من فرص بوش وحلفائه. الخسائر غير مسبوقة في تاريخ العراق وأميركا. ما فعله الرئيس الثالث والأربعون للولايات المتحدة، قاد المنطقة لمستقبل أكثر اشتعالاً.
القوات الأميركية غادرت الحرب عام 2011؛ لكن هذا لا يعني بالطبع أن أميركا خرجت من العراق، فهي رابضة في مواقع معلنة، وأخرى خفية، عندما أعلنت عن وجودها الخفي، أطلقت صواريخها بدقة شديدة تكشفها الوثائق مستقبلاً، لقتل رجل إيران القوي ورفاقه في العراق.
ثمة تاجر حرب كان بانتظار جني مكاسب الحرب الأميركية العراقية. انتهز الفرصة للدخول عنوة في صياغة القرار العراقي. اللاعب الفارسي صب الزيت على النيران المشتعلة. تصاعدت ألسنة اللهب الطائفي في سوريا تحت رسالة بعنوان «الصراع مستمر بلا موعد لنهايته». الشيء نفسه حدث في اليمن، فقد نجح الملالي في خلق أسوأ مشاهد كارثية لا تعرف الإنسانية، حسب تقارير الأمم المتحدة، هذا فضلاً عن أن «حزب الله» الذي يمثل أحد رؤوس الحربة الإيرانية في المنطقة، قد ترك بصمات صارخة للتأجيج وترسيخ ثقافة الدم داخل عدد من العواصم العربية. هذا المخطط تم تنفيذه بشراكة رئيسية كان جنرال الدم قاسم سليماني، صاحب حق إدارتها.
إذن، اللاعب الفارسي مستعيناً بنفوذ الملالي، سعى - ولا يزال - لاختطاف وتمزيق الهوية العربية لصالح مشروعه الفارسي. أشعل جنرالات الملالي فتيل الفوضى والتخريب باستخدام الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، وباتت عواصم عديدة عربية تفقد ملامحها وهويتها تدريجياً.
طرف خيط قديم يمتد بين الماضي والحاضر. الأهداف قديمة قدم استراتيجيتها. ما بين عام 1916؛ حيث «سايكس بيكو» الأولى، وبين ما تعيشه المنطقة الآن، ثمة وجوه لا يغفلها أكبر مؤرخي العالم، في مقدمتهم برنارد لويس، عراب التمزيق والتفتيت، وسيدة التقسيم الأولى كونداليزا رايس، مهندسة البنية التحتية لمشروع «الشرق الأوسط الجديد». كل شيء كان مستباحاً. المنطقة لا تمثل في عيونهم سوى خريطة ورقية يتم عرضها على طاولات أجهزة الاستخبارات العالمية لإعادة رسمها من جديد. واحد من جنرالات الهدم هو المستشار الأميركي بريجنسكي، الذي أوكل إليه ملف التخطيط لحروب المستقبل.
مقاولو الهدم يحتاجون دائماً إلى منفذين على مقاس المهمة المطلوبة. أميركا لن تجد من تمنحه ثقة التقسيم والهدم أفضل من تركيا وقطر، بتوقيع التنظيم الدولي لـ«الإخوان».
داخل غرف الاستخبارات العالمية، وقع العطاء على حفيد سلاطين الدم. تقدم إردوغان صفوف المهمة، واستدرك لاحقاً البحث عن مبررات توظيفه في هذا الدور. احتل جزءاً من الشمال العراقي (بعشيقة)، وشمال شرقي سوريا. ظن أنه بهذه الخطوات سيصبح الخليفة الجديد. حاول مراكمة قوى أخرى لدعمه بجانب البيت الأبيض. صافح الكرملين. واعتبر إردوغان نفسه اللاعب الرئيسي الذي يصعب الاستغناء عنه. خابت توقعاته بعد أن أدارت واشنطن ظهرها لأنقرة. شعر بالخزي أمام نظامه. فبحث عن مخرج جديد لإعادة تبييض وجهه. ذهب إلى الغرب الليبي، قيل إنها صفقة مقابل إدلب السورية بمعرفة الروس. التطورات تقول إن إردوغان صار كمن درس الرياضيات وأخطأ في الحساب، ففي أقرب فرصة سلمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى برلين، لتقول كلمتها أمام العالم.
الواقع يشير إلى أن المنطقة العربية صارت مسرحاً لقوى خارجية لها امتدادات وتشابكات، وتحكمها صفقات، دون النظر إلى النتائج المتوقعة.
في ظل هذه النتائج، نحن في أمسّ الحاجة إلى أن تكون الملاعب السياسية عربية، ولاعبو السياسة أيضاً عرباً.