يبدو أن الانقلاب قادم لا محالة.
الانقلاب القادم يمكن أن يأتي من جهة اليمين، ويمكن أن يتحقق على يد الوسط.
اليمين يُعدّ عُدّته بالتحريض على الوسط، والذي يسمّيه «اليسار»، ويشيع أجواء لا تختلف كثيراً عن الأجواء التي سادت قبل اغتيال رابين.
الدليل على صحة، بل دقة هذا التشخيص أن بيني غانتس نفسه، قال، إن أيام الاغتيال السياسي تقترب.
التحريض بلغ مداه من خلال (إلباس) رموز «الوسط» و»اليسار» الكوفية الفلسطينية، وفي هذا الإلباس الإشارة إلى «خطر» «المشتركة» والتحالف معها، أو الاستناد إليها واضحة ولا تقبل التأويل.
لعبة خلط الأوراق في الدقيقة «التسعين» واردة، بل يمكن أن تكون مرجّحة.
أما الوسط فالانقلاب الذي يُمكن أن يحققه ليس انقلاباً على القانون والنظام، وإنما هو الانقلاب بواسطة القانون، ومن خلاله فقط.
لكنه سيكون بمثابة انقلاب على كل حال، وذلك لأن من شأن قدرته على تشكيل الحكومة أن يضع حداً لسطوة اليمين وتحكّمه بالدولة الاسرائيلية، ومن شأن أمر كهذا أن يودي بنتنياهو، وربما بما يصل إلى تشتيت شمل هذا اليمين، والقضاء على كل آماله في استثمار الفرصة التاريخية التي راهن عليها مع مجيء ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، ومع التمهيد الذي قامت به الولايات المتحدة للأرض العربية لاستثمار هذه الفرصة، ومع رخاوة الوضع الدولي، وما توفره هذه الرخاوة من بيئة مواتية لتحقيق أهداف هذا اليمين.
هل سيسلّم اليمين الإسرائيلي، وهو على الدرجة التي هو عليها، ومع كل ما يمتلكه من أوراق، ومع كل ما لديه من أدوات ومن ظروف إقليمية ودولية للوسط واليسار بتشكيل حكومة في إسرائيل؟!، وهل سيقبل أن يتم تجريده من قوته جهاراً؟ هذه مسألة لا يستطيع أن يتكهن بها أحد، ولا يمكن المراهنة على قبول هذا اليمين بقواعد اللعبة الديمقراطية. في الواقع فإن عدم قبول اليمين الإسرائيلي بهذه اللعبة هو إعلان انقلاب على الديمقراطية، في حين أن تشكيل حكومة من قبل تكتل «أزرق ـ أبيض» بالتحالف مع «اليسار» ودعم ومشاركة حزب ليبرمان، ودعم «المشتركة» حتى من خارج الحكومة هو انقلاب ديمقراطي أو إحداث انقلاب كبير من خلال الديمقراطية، وربما للمحافظة عليها قبل كل شيء.
مهمة تشكيل مثل حكومة كهذه ليس أمراً سهلاً على الإطلاق. فبالرغم من أن ليبرمان وضع شروطه للمشاركة ولدعم حكومة للوسط واليسار، ليس من بينها كما يبدو حتى الآن عدم دعم القائمة المشتركة لمثل حكومة كهذه، وبالرغم من قبول غانتس لكل شروط ليبرمان، وما يعنيه هذا الأمر من تجاوز «عقبة» كبيرة على طريق تشكيل الحكومة الجديدة، إلا ان عقبة القائمة المشتركة، وموقعها، وشروطها ستظل هي العقبة الأكبر حتى ولو أن موقف ليبرمان قد تغير وتجاوز شرطه السابق حيالها.
صحيح أن إسقاط نتنياهو، وإنهاء حياته السياسية هو قاسم مشترك للقوى الأربع التي يمكن أن تخرج هذه الحكومة الى النور، إلاّ أن تشكيلها دون مشاركة القائمة المشتركة فيها هو الحل الأفضل لجهة استحالة موافقة غانتس على «شروط المشتركة للمشاركة»، مع إمكانية قبوله لشروط المشتركة للدعم من الخارج.
أقصد أن «المشتركة» ربما تفكر بدعمها الحكومة من الخارج وبشروط أقل من شروط مشاركتها فيها.
هذا الموقف (على صعوبته الكبيرة) سيعطي لواحد مثل ليبرمان التذرع أمام ناخبيه، وسيعطي لغانتس هوامش واسعة أو أوسع للوصول إلى التشكيل نفسه.
على كل حال، بتاريخ 20/2/2020، كنتُ قد كتبتُ في «الأيام» أن ليبرمان لم يعد هو بيضة القبّان الوحيدة، وأن القائمة المشتركة هي بيضة القبان الكبيرة والحقيقية، وقد تبين الآن أن القائمة المشتركة من خلال ما حققته من تقدم ونجاح قد تحولت بالفعل إلى القوة السياسية الأهم لحسم الصراع، أو لبدء حسم الصراع على الهوية الديمقراطية لإسرائيل، وليس على الهوية السياسية لإسرائيل.
هوية إسرائيل السياسية ستظل متناقضة مع هويتها الديمقراطية إلى ان يتم التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني، وإلى أن يتم إنهاء الاحتلال، وهي لن تستقر مطلقاً قبل إنجاز هذا المتطلّب، إلاّ أن هويتها الديمقراطية يمكن أن تتعايش إلى حين دون أن يتم حسم الهوية السياسية نهائياً.
القائمة المشتركة هي الجهة الأقدر على تحديد التوجه، وهي مؤصلة إلى أبعد حدود التأصيل لصياغة استراتيجيتها وتكتيكاتها التي تساعدها على شق طريق المستقبل لتحقيق هذه الاستراتيجية، وهي الجهة الأكثر معرفة ودراية بكل دهاليز السياسة في إسرائيل، وهي الجهة الوحيدة القادرة على تقدير المصالح العليا لأهلنا في الداخل واحتياجاتهم، وبالتالي لدورهم ومكانتهم، وأدوات الفعالية والتأثير المتاحة أمامهم ولهم.
لكن وفي مطلق الأحوال فإن مسؤوليتهم كبيرة، ومهمتهم صعبة وشائكة، ودورهم تعاظم إلى حدود غير مسبوقة، بل وإلى أهداف مصيرية.
ولعل حساسية دعم حكومة سياسية إسرائيلية، لم تسلم بحقوق الشعب الفلسطيني، وليس لديها موانع حقيقية من «الانسجام» التام مع «صفقة القرن»، بل والمجاهرة بالضم والتهويد والمصادرة ليست خافية على أحد. كما أن حساسية من هذا النوع وما يمكن أن «تفتحه» من أبواب مشرعة على حفلات من المزاودة السياسية أمر ماثل للعيان وواضح أمام الجميع، وهو ما يزيد من صعوبة موقف «المشتركة».
الأمر يحتاج إلى أعلى درجات الحكمة والحذر والشجاعة في آنٍ معاً.