كان يمشي في حارتنا يكلم نفسه ، ثم يقف يتأمل ، و يعد على أصابع يديه ، ثم ينظر إلى السماء ، و يغمغم بكلمات غير مفهومة و يستمر في السير .. 
و أحيانا كان يأتي و خلفه أسراب الأطفال ، في زفة مجلجلة ، كأنهم النحل ، ينعتونه باقزع الأوصاف ، من مجنون و عبيط و غيرها من المسميات .. و هو ينظر إليهم أحيانا ، و يبدو عليه أنه لا يراهم ، ثم يبتسم و يستمر في السير بملابسه الرثة و شعره المنكوش ، عرفت فيما بعد أنه قد مات وهو جالس القرفصاء في ظل جدار في أحد الشوارع .. و قد اثّـَرَت فيّ قصته و طريقة موته ، سيما و أنني كنت أستنكر طفلاً ما كان يفعله أترابي معه .. ولما سألت ، قيل لي أنه كان رجل ( إبن ناس ) و أنه كان واسع الإطلاع و الثقافة ، و أن تزاحم العلوم في راسه جعلها تتصادم و تشتبك ، مما أصابه بحالة ذهول و إنفكاك عقل ، و هذيان كما كان واضحاً عليه .. 
ومثله  يتكرر و مازال في كثير من الأماكن .. غير أنه و على ما يبدو ، سهولة الإستقاء الجمعي للمعلومة ، و غزارة و كثافة العلوم و الأنباء و الأخبار ، خلقت حالة من ( الهذيان الجمعي )  و هو تماما ما أصاب صاحبنا ذاك ، ولكن في صورة مجتمعات و لا أبالغ إن قلت في صورة شعوب ، بل ربما في صورة ( عالمية ) .. 
ثقل المعلومات ، و غزارتها ، باتت أكبر من أن  تتحملها عقولنا ، فينفلت عقالها ، و تجنح إلى طرق الخلاص بالهذيان بعدة أشكال و أنماط ، منها على سبيل المثال لا الحصر ، التحليل و التفنيط و الإستنتاج و الحسابات الخيالية ، أو اللجوء إلى الماورائيات و الروحانيات من دين و سحر و شعوذة و خوارق ،  أو الإنحدار إلى التبلد التام بالإنكار و ( اللا أدريات ) و التسطيح و التسفيه و عقدة مؤامرة اللامؤامرة أو المؤامرة .. وغيرها من الأشكال و الألوان السلوكية ، و الذهنية الجامعة التي تعتري مجتمعاتنا عند أي حادثة تتطلب الوزن العقلي و الإتزان النفسي في رؤيتها و تشخيصها و من ثم معالجتها .. 
أدعي أن عدم معرفتنا الحقة بمعنى كلمة ( الميزان ) التي جاءت في المصحف الشريف ، و أنها المعادلة الضامنة لكل موجود ، و فعل و إسم في أكواننا ، و عدم إتساقنا مع دعوة الرسول محمد عليه الصلاة و السلام حين دعانا بكلمة واحدة لخص فيها كل ما يمكن أن يضمن لنا الإتزان و الثبات بقوله ( إستووا ) .. أقول أن عدم الإيمان بذواتنا ( الإنسانية ) و الإصرار على كونها ذات ( بشرية ) و فقط ، هي أصل الحالة المرتبكة ، و الفزع الذي نعاني منه إلى درجة الهذيان و فقدان التوازن كما هو حاث الآن بإعلان الهزيمة المبكرة  أمام فايروس واحد ، بكل ما نملك من جيوش و إقتصاد و تكنولوجيا و أرض و فضاء .. 
فلا أصحاب الهذيان الديني و الماورائي و الروحي عملوا على الإستفادة من الأشياء التي منحها لهم ربهم ، في إعادة تركيبها و التفكير فيها ، و خلق دواء بإسم الله إن شاءوا ، لعلاج ما هم ونحن فيه ، بل دفعهم هذيانهم إلى الإكثار من الطلب من الله أن يشفيهم و يبعد عنهم الداء و يخلق لهم الدواء .. دون عناية أن يقوموا هم بالتسبيح ، و التسبيح الذي أفهمونا و إياهم معناه لا يتخطي التمتمة ببعض الكلمات و الأذكار ، طناً منا ( أو هكذا وقر في قولنا ) أن تلك الكلمات و التمائم ، فيها مفاتيح و أسرار غيبية ، تلين الحديد و تقرب البعيد و تفرج الهموم ، و لم يفهمونا أن التسبيح في حد ذاته من فعل ( سبح ) وهو فعل الحركة ، أي أننا عمليا متحركون ، و نعترف أمام خالقنا با،نا في حالة ( حركة ) ولسنا مثل الله ( الصمد ) ، أي أن الربانيين و المتدينيين كان من المفروض أن يعطوا التسبيح حقه بالحركة ليصلوا إلى ما يرجونه بالفعل و ليس بالكلمات ، و( بتركيب ) هذا الدواء الذي هو ممنوح أصلا و أمام أعينهم .. تماماً كما يدعون الله في كل صلاة و حج و عمرة و أحد و قيامة و غطاس و مولد و رمضان و عرش أن يخلصهم من الإحتلال و الصهاينة و يحرر لهم القدس و بيت لحم .. تواكل و هذيان لا طائلة منه .. 
و أصحاب الهذيان المادي " العقلاني" المنطقي الفلسفي أو سمه كما شئت ، فكل المسميات في رأيي باطلة (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى
)  

منشغلون في تسخيف و تثبيط و إنتقاد الآخرين من الروحانيين و الربانيين ، بدلاً من الإنشغال في ترتيب الأشياء بمشيئة العلم و ليس الله إن شاءوا ، لينتجوا دواءً لمرضهم و مرضنا معهم .. لذلك لا تجد إلا الواقعيين الذين يؤمنون بأن هناك ( أشياء ) موجودة بفهل ( المشيئة الإلهية – إن كانوا مؤمنين ) أو ( مشيئة الطبيعة – إن كانوا غير مؤمنين ) ، هؤلاء ، و هؤلاء فقط هم الأقدر على التعامل بشئ من اتزان العقل و السلوك في مواجهة الكارثة ، و تخليق الخلاص . 
بينما سيستمر أغلب البشر ، في هذيانهم و اللعب بالكم الهائل من المعلومات الصحيحة و الملوثة و يستبلون الحارة بالفيس بوك و تويتر ، و يستبدل  ( أطفال الزفة ) باللايكات و الكومنتات ، كل وفق المعلومات و الخرافات التي ملأت عقولهم ، حتى باتوا يناجون السماء و النجوم ، و يحسبون أنهم مهتدون ، سكارى و ما هم بسكارى ..