فيروس كورونا لم يزل يتصدر اهتمامات العالم أجمع، من كل الطبقات والفئات، من القمة إلى القاعدة، لا صوت يعلو فوق صوته، وقد ألغى كل الأولويات ليظلّ وحده على رأس القائمة، وهو أمرٌ طبيعي فلا شأن يعلو على حياة الإنسان وصحته.
هذه الأوبئة والجوائح مثل فيروس كورونا المستجد الحالي مخيفة - وحقّ لها - وذلك لسرعة انتشارها وشدة فتكها بالناس، والجهل المطبق بها فضلاً عن علاجها أو اختراع لقاحٍ لمقاومتها، وقد مرّت البشرية بأمثالها كثيراً، وهي أبدا لا تخلّف إلا المرارة والألم لدى كل الناجين منها بما تأخذه من أحبة وأقارب.
كم كان مثيراً ورائعاً التغيّر الذي طرأ على الفتاوى الصادرة من عددٍ من البلدان العربية ومن الجهات الرسمية فيها في مواجهة هذا الفيروس الخطير وهو خطابٌ لم يكن معهوداً من قبل لأسبابٍ متعددة؛ ذلك أن المؤسسات الدينية الرسمية كانت تخضع من قبل لسلطة خطاب جماعات الإسلام السياسي ورموزها بشكلٍ أو بآخر باستثناء الأحداث الكبرى التي لا تستطيع المؤسسات الدينية مخالفة مصالح الدولة والشعوب.
كتب كاتب هذه السطور الأسبوع الماضي في هذه المساحة ما نصه «فحفظ النفس أحد أهم مقاصد الشريعة ودلائله في المصادر الأصلية في الإسلام لا تحصى، وبالتالي فكل ما يحفظ أنفس الناس وصحتهم وعافيتهم فهو مقدمٌ على كل ما سواه، وهو مع غيره من قواعد الفقه وأصول الدين لا يدع مجالاً للشك بأن كل ما يحمي الناس مقدمٌ على غيره، وهو ما صنعته السعودية بمنع العمرة وما يدفع بعض الدول للتفكير في منع الجمعة والجماعة».
وقد صدرت الفتاوى المهمة والمميزة هذا الأسبوع من أكثر من جهة دينية بهذا، أي بإغلاق المساجد وإيقاف صلاة الجمعة والجماعة كما جرى في الكويت أو بتحريم صلاة الجماعة على المصابين بالفيروس، وتخيير الناس بين صلاة الجماعة أو الاكتفاء بالصلاة في المنزل، كما جاء في فتوى هيئة كبار العلماء السعودية، ويشبهها ما جاء في فتوى الأزهر بمصر.
صلاة الجماعة شعيرة دينية ومثلها أداء العمرة، ولكن حياة الإنسان أهم، ولأن هذا أمرٌ ثقيلٌ على قلوب المؤمنين، فالجميع كان يحتاج لفتوى قوية تساعدهم على التخلي عن هذه الشعائر لفترة محدودة لضمان وقف انتشار هذا الفيروس القاتل، دعماً للجهود الحكومية القوية التي تسعى كل دول العالم لبنائها ونشرها في هذه المواجهة الحتمية التي قد تطول.

كانت الفتاوى تصدر سابقاً بشكلٍ عشوائي فكل من رأى نفسه أهلاً للفتوى أصدر الفتاوى في الفضائيات، أو عبر فضاء الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وهو المجال الرحب الذي كان يملأه رموز الإسلام السياسي، وكانت فتاوى دينية يتمّ توظيفها غالباً لمعارضة الدول وسياسة الحكومات حتى في أصعب الظروف وأقساها، وهذا أمرٌ انتهى تقريباً في العديد من الدول العربية وأهمها السعودية ومصر بعد الخطوة التاريخية لعددٍ من الدول العربية بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي جماعاتٍ إرهابية.
كمثالٍ على تلاعب جماعات الإسلام السياسي ورموزها بالدين لخدمة أهدافهم نذكر بحرب الخليج الثانية وغزو صدّام حسين لدولة الكويت واحتلالها حيث، انضمت جماعة الإخوان المسلمين لصدام حسين ضد الكويت والسعودية ودول الخليج وغالب دول العالم وقامت تلك الجماعات وأولئك الرموز، بإصدار المحاضرات والكتيبات والفتاوى التي تحرّم الاستعانة بالحلفاء الغربيين تحت ذرائع لا تسمن ولا تغني من جوع، فكان لا بد للسعودية من إصدار فتوى صريحة تقف في وجه هذا الخطاب الإرجافي في لحظة خطرٍ وجودي على الدولة نفسها، فصدرت الفتوى من هيئة كبار العلماء السعودية، وتم إسكات ذلك الخطاب المتطرف وحرّرت الكويت ودحر المحتل الغازي.
من قبل، وعندما أراد الملك فيصل تحرير الرقيق، وتم تحريض العلماء الكبار من قبل الحركيين المتطرفين أوضح لهم الملك فيصل كل أبعاد القضية على المستوى الدولي وما هي تأثيراتها على مصالح الدولة والشعب فتغيرت الفتوى وصمت المرجفون، ومن بعد وفي عام 2003 بعدما أعلن تنظيم «القاعدة» عن تبنيه لعمليات تفجير في السعودية قامت جماعات ورموز الإسلام السياسي بالضغط على الفقهاء لعدم إصدار فتاوى ضد هذه الجماعة الإرهابية، وخرجوا بفتاوى وكتب يبررون فيها للإرهابيين ما صنعوا من إرهاب وتدميرٍ وتفجيراتٍ، ولكن لأن الأمر جللٌ فقد خرجت فتوى كبار العلماء بمواجهة هذا الإرهاب رغم ضغوطات الإسلام السياسي جماعاتٍ ورموزاً.

في مواجهة فيروس كورونا لم نسمع لجماعات ورموز الإسلام السياسي صوتاً في الدول التي أعلنتها جماعاتٍ إرهابية، لأنهم جميعاً صمتوا صمت القبور أمام عزم الدول على مواجهة الفيروس، وحماية الشعوب ولم يستطع أحدٌ منهم أن يمارس ضغوطاً على المؤسسات الدينية الرسمية بأي شكلٍ وأي نوعٍ، وهو دليل على قدرة القيادات السياسية الواعية على تغيير التاريخ ورسم المستقبل، ولولا السياسات الرشيدة في تصنيف الإسلام السياسي إرهابياً لكانت مواجهة الفيروس أصعب بكل تأكيد.

وفي السعودية أعلنت وزارة الشؤون الإسلامية إعلانات متتابعة عن السبيل الأمثل لمواجهة الفيروس، وهي مستمرة في التفاعل مع المستجدات والإجراءات الاحترازية التي تفرضها الدولة دون أي مقاومة من خطابات جماعات الإسلام السياسي؛ لأن المواطن هو الكنز الحقيقي الذي تجب حمايته ورعايته.
في التاريخ عبرة، وقد كتب المؤرخ النجدي المعروف إبراهيم بن عبيد في تاريخه «تذكرة أولي النهى والعرفان» عن وباء الحمى الإسبانية إبان الحرب العالمية الأولى، وما حدث في السعودية في ذلك الوقت: «وبسببه هجرت مساجد وخلت بيوت من السكان، وهملت المواشي في البراري فلا تجد لها راعياً ولا ساقياً» وحتى لا يصل المسلمون لأن تهجر المساجد بسبب الموت، فقد صدرت هذه الفتاوى العاقلة، التي تراعي المصالح الكبرى للدول والمواطنين بالإغلاق المؤقت لبعض الشعائر المهمة لتتمّ المحافظة عليها لاحقاً.
لئن تتشدّد الدول في المواجهة وتمارس شيئاً من التضييق على خيارات الناس، لهو خيرٌ بما لا يقارن من أنها تساهلت حتى يقع المحظور، وها هي الدول التي تساهلت في مواجهة الفيروس في البداية كإيطاليا وألمانيا تعاني أشد المعاناة اليوم، وقد أصبحت أخطر البؤر دولياً لتفشي الفيروس.
أخيراً، فالإسلام والأديان جاءت لرعاية الإنسان وحمايته، ومثل هذه الفتاوى الرائعة تثبت للعالم أن الإسلام هو دين الرحمة، وأن الله قد كرّم بني آدم وقدّم كل ما هو في مصلحته على غيره، والضرورات تبيح المحظورات.