حتى الآن، يمكننا الحديث عن نجاح فلسطيني باهر في محاصرة فيروس «كورونا»، بالمقارنة مع دول كثيرة، كبيرة، ومتطورة.
يعود الفضل في ذلك ـ حتى الآن ـ إلى سرعة ونجاعة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بعد قرار الرئيس «أبو مازن» بإعلان حالة الطوارئ.
كما يعود دون أي مجاملات إلى سرعة الاستجابة المجتمعية، وإلى انبثاقات مباركة لروح التضامن والإحساس بالمسؤولية الوطنية، وتحول هذه الروح تدريجياً وتصاعدياً إلى مشاعر عامة وسلوكيات تعكس حالة واسعة من الشعور بالرضا والتفهم واستعادة الثقة بالنفس والمؤسسة الوطنية، إلى درجة أن البعض ـ وقد يكون على حق ـ لم يتردد بتذكيرنا بتلك الروح التي سادت في المراحل الأولى، وربما الوسطى من أحداث الانتفاضة الوطنية الكبرى في العام 87 من القرن الماضي.
نحن لا نتحدث بعد عن انتصار حاسم، بل عن نجاح ما زال برسم استكمال الإجراءات، وربما أخرى جديدة، وبرسم التعامل الخلاق مع وقائع يمكن أن نصنفها في دائرة الثغرات.
أكبر هذه الثغرات هم عمالنا في إسرائيل، وإمكانية انتقال الفيروس إليهم من أماكن العمل فيها.
من الصعب، إن لم نقل من المستحيل السيطرة التامة على «ثغرة» كهذه.
الأمر في غاية الصعوبة بالقياس إلى أعداد العاملين (نحن هنا نتحدث عن أكثر من مئة ألف عامل نظامي، وعن 30 – 40 ألف عامل أقل انتظاماً، أو غير نظاميين على الإطلاق). والأمر يحتاج إلى تعاون إسرائيلي شفاف للغاية، وإلى تزويدنا بالمعلومات الدقيقة من قبل إسرائيل حول التوزيع الجغرافي للإصابات لديهم، وحول أدق التفاصيل التي تتعلق بهذه الإصابات.
كما أن فترة «الأمان» المطلوبة مازالت جارية، وربما نحتاج إلى أسبوعين إضافيين لتجاوزها.
في ضوء كل ذلك، فإن الأسبوعين القادمين يعتبران بكل المقاييس المعيار الأهم للإعلان عن محاصرة الفيروس والانتصار الفلسطيني عليه، هذا إذا بقيت السيطرة الحالية قائمة بنفس الكفاءة والفعالية.
عندما نُمعن النظر في كل ما تتخذه الدول الآن، في أوروبا وأميركا وباقي دول العالم، فإننا نجد في الواقع الإجراءات التي أخذناها مبكراً وقبل غيرنا ـ وهذا يسجل لنا وقد سجل لنا فعلاً ـ.
وجوهر الوقاية التي بدأت على المستوى العالمي كله هي منع الاختلاط أو الحد منه إلى أعلى مستوى ودرجة ممكنة. هذه الوقاية تكون فعالة وفعالة للغاية عندما تكون استباقية واحترازية كما هو الحال عندنا، لكن هذه الفعالية تقل كثيراً عندما يتم التأخر أو التأخير أو التردد في اللجوء إليها.
هنا المسألة تحسب بالأيام والساعات والدقائق أحياناً.
وبحكم معرفتي لبعض اللغات الحية، ومتابعتي التفصيلية للذي حصل في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا إلى حد ما، وما حدث في بريطانيا ويحدث الآن في الولايات المتحدة، والكثير الكثير من بلدان العالم فإن سرعة الإجراءات الوقائية والاحترازية هي جوهر النجاح وسر الانتصار على هذا الفيروس. ليس صحيحاً أبداً أن الأمر يتعلق بالاستهتار في الحالة الإيطالية، وليس هناك من تردد أو حتى تأخير في الحالة الكورية أو اليابانية ولا حتى الإيرانية، الأمر يتعلق بعدم المبادرة إلى الإجراءات السريعة والحاسمة في الوقت المناسب، والأهم هو عدم التراخي وقد يظن البعض أن «القرار» حول التوقيت والسرعة هو قرار طبي أو اختصاصي، إلاّ ان تجربة معظم البلدان تقول وتفيد بأن القرار هو قرار سياسي بالأساس.
القيادة السياسية هي صاحبة القرار والمبادرة عند أول مؤشر مهما كان صغيراً أو هامشياً.
نحن كنا سباقين هنا، وسنجني ثمار هذا القرار، وهذه المبادرة في المستقبل القريب، عندما نتمكن من محاصرة هذا الفيروس والسيطرة عليه. وإذا ما ظلت صحوتنا وحذرنا وإجراءاتنا صارمة ودقيقة كما هي عليه الآن.
العالم الغربي كله الآن منغمس بصورة تفوق العادة والتصور، وهو أمام تحديات وتهديدات محدقة وخطيرة ومصيرية بالمقارنة مع درجة التهديد.
أما الحالة في الإقليم العربي حتى وإن كانت أقل خطورة مما هو عليه الحال في الغرب فإن أمنها «الصحّي» بات يتطلب أعلى درجات التنسيق الإقليمي، وخصوصاً العربي البيني، لأن إغلاق الحدود كإجراء وقائي لا يحل كل المشكلة، أو يتصدى لكل أبعاد الأزمة.
خذوا ـ على سبيل المثال ـ بلداً كالعراق.
هذا البلد منفتح على إيران، والحدود السورية العراقية ليست محكمة الإغلاق، وتركيا تعمل داخل الأراضي السورية، والحدود السورية اللبنانية أبعد ما تكون عن هذا الإغلاق، وكذلك هو الوضع بين اليمن والسعودية، وبين السعودية ودول الخليج وبين العراق والسعودية، ويكاد نفس الأمر ينطبق على الحدود في البلدان العربية الأخرى سواء بين مصر والسودان وليبيا، أو بين بلدان المغرب العربي الكبير.
ناهيكم طبعاً عن واقع شعبينا على ضفتي النهر.
يحتاج العالم العربي، اليوم، قبل الغد إلى ما هو أعلى وأبعد وأهم من إغلاق الحدود.
يحتاج إلى إجراءات مشتركة، وتضامن مشترك، وربما إلى حشد موارد مشتركة لتجنب الآثار التهديدية لكامل الإقليم العربي.
وتحتاج الدول العربية الأقل حظاً من زاوية الموارد المالية إلى دعم مباشر وسريع من قبل الدول العربية القادرة والمقتدرة، لأن الأمر يتعلق هنا بالأمن القومي الشامل، وفي مواجهة تهديد غير مسبوق للموارد البشرية العربية برمتها.
ولا يظنّن أحد أن بإمكانه عَبر موارده الوفيرة النجاة والوصول إلى برّ الأمان قبل أن يضمن هذا الوصول إلى معظم بلدان الإقليم العربي.
ومن المفترض أن يتم وبأقصى سرعة استحداث خلية أزمة إقليمية عربية لديها من الصلاحيات ما يكفي لاتخاذ الإجراءات الضرورية، ولديها من سعة الأفق والمعرفة ما يؤهلها للمساهمة المباشرة والفاعلة في التصدي لهذا الخطر الداهم.
وإذا كان من الخطأ الكبير التردد في اتخاذ إجراءات الوقاية الشاملة، فإن الخطيئة بعينها أن يعتقد أحد بأن التقوقع «القطري» سيحميه من هذا التهديد.
التراخي كلف الغرب حتى الآن الكثير والتراخي في عدم أقلمة الخطر سيكلفنا شعوبنا وبلداننا ما هو أكثر بكثير.
تحلُّ هذه الأيام مناسبة مولد شاعرنا العظيم محمود درويش، وباسمه وذكراه الخالدة نهدي لكل شعوب الأرض قصيدته المفعمة بكل العمق الإنساني النبيل.
قصيدة: فكّرْ بغيركَ ....
صحيح أننا لا نملك الكثير من الموارد، ولكننا نملك ما يفيض من المشاعر الإنسانية والقومية لشعوب أمتنا الكبيرة، وشعوب العالم.
كما نملك ما يفيض ويزيد من إرادة الحياة، والإصرار على تحدّي الصعوبات.