يبدو أن هناك خلط بالغ ، و غائر ، في فهم الأسباب و المسببات ، بمعنى أن العالم ما زال يقف حائراً في تحديد مسببات تكون و تطور هذا الفايروس الذي أصاب البشر بشكل غريب و مفاجئ و سريع ، بين تخرصات و إشاعات و إستنباطات ، و بين بحث دقيق أستنفر كل أجهزة البحث العلمي بل و أجهزة المخابرات في العالم .. و على التوازي إستنفرت كل مراكز البحوث العلمية و الطبية طاقاتها البشرية و التقنية لمحاولة البحث عن أسباب الشفاء و الخروج بسلام من هذا الغم الثقيل بتجارب على أدوية مخففة للآثار أو على مصل يبعد إحتمال الإصابة من أصلها ..
وفي وسط هذا الإرباك و الزحام ، تصر الإشاعة و مثيريها و يصر المفتون و الطفيليون على ان يمدوا رؤوسهم ، و يدلوا بدلوهم الذي لا يزيد الحالة إلا إرباكاً ، و تعقيداً . و بالطبع كما كان للتقدم العلمي الأثر البالغ في سرعة إنتشار الوباء من مكان إلى آخر ، عبر الرحلات و السفر من قارة إلى قارة ، سهلت حمل الفياروسات بواسطة البشر ، دون أي إعتبار لتأشيرات أو محددات سياسية و أمنيه .. فإن التكنولوجيا أيضا تلعب دوراً هو الأهم في إنتشار الشائعة و الفتوى البائسة و الأكاذيب و الترويع و التثبيط بنفس القدر الي تنقل فيه البشائر و التحذير و النصح ..
غير أن عاملاً هاماً ما زال غائباً عن كثير منا .. عله الأهم و الأصح في فهم المسبب ، و هو الأهم أيضاً في شرح طرق و أسباب النجاة .. ( الإيمان ) ..
غزارة الحديث عن البحوث العلمية ، و الأرقام و الإصابات ، ربما ألع=هتنا عنمعادلة إيمانية غاية في الدقة و الأهمية ، و ربما كل ما نمارسه من ( إيمان ) في هذا الشق هو ( إبتهال الخائف و رجاء الضعيف اليائس ) .. وهذا جيد ، ولا بأس فيه في رأيي و فهمي المتواضع ، غير أنني أفهم و أرى من زاوية أخرى ، أحببت أن أشاركها مع القارئ ..
فعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ ".
و الغريب هنا في هذا الحديث هو ( الصبر على الخير ) !! فنحن نعرف أن الصبر مقرون ( كما هو راسخ في وجداننا و مفاهيمنا ) إنما يكون على البلاء و الشدائد و الأمراض .. فكيف يكون الصبر على الخير ؟
في الخير نحن فرحون ، و ننسى الشكر ، و تأخذنا الفرحة و الأريحية بعيداً عن وزن الأمور بشكل حقيقي و صحيح ، فنبتلى بالجحود ، و نتحول إلى حيوانات شرهة ، نطمع في المزيد ، و لا نتوقف عن البحث و الزيادة ( ألهاكم التكاثر ) و التكاثر هنا لا يعني التزاوج و الإكثار من النسل ، بل التكاثر في كل شئ ، في المال و الأملاك و زخرف الحياة .. و هذا الخير في حد ذاته بلائ و إبتلاء ، يقتضي منا الصبر .. و الصبر لا يقدر عليه إلا المؤمن العارف و القار لما بين السطور .. يصبر على الخير بالشكر ، و الإقتراب أكثر ، و إستعمال الخير في الخير ..و هذا أمر ثقيل و ربما لو أننا عرفنا أن رسول الله علي الصلاة و السلام ، كان من عائلة عريقة قرشية ، وورث ما ورث عن زوجته خديجة ، و كان يقدر أن يستزيد من المال ما شاء ، و لكننا نعرف جميعاً كيف كانت حياته و بساطته و زهده .. و هذا صنو الأنبياء و المرسلين في أغلبهم ، إلا من أراد الله أن يكون آية و عبرة كنبي الله داوود و إبنه سليمان .. عليهم أجمعين الصلاة و السلام .
و يحذرنا تعالى من الإرتباك ، و الشك في رحمته ، أو في تفسير ما يقع من مصائب أو ينزل من نوازل بأنه مكروه و لا يمكن رفعه و معالجته بالتضرع و الثبات على الرضا و الإيمان ، أو أن نلجأ فقط إلى الإبتهال دون الأخذ بالأسباب في إستخدام و تشيئ الأشياء التي منحها لنا الله لتركيب الدواء أو للسيطرة على الأزمات و النوازل .. ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ - القلم
و رغم أن صاحب الحوت ، مقرب و نبي ، إلا أن عدم الصبر ، كان آية للمؤمنين ، ولاحظ كلمة ( مذموم ) بمعني ملوم و مبعد .. فعدم الصبر و الإيمان بحتمية الخير من البلاء مدعاة للوم و الذم و الإبعاد .. حيث قال الله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) ) سورة الشرح ، وهذا التكرار و التوكيد و إستخدام مفردة ( مع ) و ليس ( بعد ) في الآية أوضح من أن يشرح .
هذا الإيمان المطلق ، و غير القابل للإهتزلز او التحول قيد أنمله ، هو أهم أسباب الإرتقاء بالأسباب المعالجة ، و المسيطرة على أي نازلة ، عندما يؤمن الإنسان بقوله تعالى فى سورة الحديد : «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)»
آية في منتهى الدقة ، و الشمول ، و غزارة المعاني لمن يتفكر و يتدبر ، أن يؤمن الإنسان بأن أي نازلة أو مصيبة هي مقدرة ، و تقديرها في كتاب ، و هنا لابد من التروي و التفكر بمزيد من الجدية و التمحيص في قوله تعالى ( كتاب ) وعلينا أن ننفض عنا بعض ما شاب و علق لدينا من المفاهيم القديمة و نغير زوايا الرؤية ، و نحاول التبصر بشكل أكثر عقلانية في إستخدام كلمة ( كتاب ) و لا نرحل المعنى إلى مفهوم أن ( ما كُتب قد كُتب و سُطِر في كتاب لا تبديل و لا تغيير فيه ) هذا مفهوم إتكالي ، فيه يستقيل الإنسان من أهم معاني الوجود ، و هي دوام الحركة و إستخدام ما شاء الله من ( أشياء ) ليركبها و يبنيها و يبرمجها و يدمجها أو يتعامل معها بأي أسلوب لينال خيرها و منفعتها بإستخدام سلطان العلم . فالكتاب هنا لفظ دقيق الدلالة على تعددية المراحل ، فأي كتاب هو عبارة عن مجموعة من الفصول ، أو الأبواب ، أو العناوين و المواضيع ، أو الأفكار ، التي يقوم الكتاب بتجميعها بشكل تسلسلي أو منهجي يكون في نهاية المطاف كتاباً تاما وافياً ..
و تقادير الله ، و قدره ، هو بالنسبة لنا ، كما دلنا ربنا سبحانه ، هي مجموعة معاملات ، و ظروف ، و أسباب ، أو سمها بأي إسم ، إذا ما جمعت ساقتك إلى قدر من أقدار الله .. هو معلوم لديه لأنه ( هو ) و لكنه متروك لك لأنك مخير بتجميع كتابك .
لأنه ( هو ) العالم بكل مخلوق قبل أن يخلقه ( يبرأه ) و يعلم بكل مصيبة في الأرض أو في أنفسنا بمتتالياتها و منطقية حدوثها قبل أن تتمنطق و قبل أن ( نبرأها ) أي تخرج إلى طور التخليق .. وهذه قدرة الله السابقة ، ولكنها تظل مشيئة الإنسان في إختيار ما يريد لما يريد من ( مشيئة ) الله .
و أنت إذا إخرت فصول و أفكار ( كتابك ) يجب ألا تأسوا و لا تحزن على ما فاتك و ما فقدت ، لأن كتابك من صناعة يديك و إرادتك الحرة ، و لا تفرح بما أتاك ، و لا تفخر ، فكل ما فعلت أن معادلتك كانت صحيحة ، و ترتيب الأشياء المأخوذة من مشيئة الله الممنوحة ( للإنسان ) على الإطلاق ، كافر كان أم مؤمن ، ترتيبك لفصول الكتاب ساقتك إلى قدر فيه نجاح و إنتصار ، فلا تفرح و لا تختال ، لأنك في النهاية لم تختر إلا ضمن ( ما منحة الله لك من أشياء ) و إنت إن إختلت و فرحت ، فهذا سوف يعني بالضرورة أنك ( كتبت الكتاب ، و صففت الأفكار ، لتصل إلى قَـدَر الإنتصار و النجاح ) و أنت تؤمن بأن هذا من صنعك و بأسمك وليس بإسم الله .. و الله لايحب كل مختال فخور ، و أي نجاح و علو في الأرض من هذا النوع مصيره الزوال و الدمار ولو بواسطة فيروس لا تراه العين ..
إذن فالمطلوب من الإنسان ( أن يفكر و يتدبر ، و يستخدم ما منحه الله من أشياء في تخليق مشيئة ) هي في ذاتها كتاب القدر ، و التقدير الصحيح يؤدي إلى قدر ملئ بالنجاح و الفوز . و شرط الإستمرار في هذا هو أن تبدأ بإسم الله ، و تؤمن بأن كل ما تفعل هو من الله و لله و بإسمه ، بمعنى أن تكون مؤمناً بصدق ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ) – العصر
حتى النوازل ، و المصائب ، و نحن نؤمن أنها ( كتاب ) و جاءت نتيجة معادلة ، و إستخدامنا نحن لأشياء من ضمن ما خلق الله لنا بأسلوب فيه خطأ أدى إلى الكارثة أو المصيبة ، فيجب ألا يهز هذا إيماننا ، و يجب أن نعتبره كما إعتبره سيدنا يونس عليه الصلاة و السلام ، منحة من الله ، يجب أن توخى خيرها ، بالإقرار أولاُ بالخطأ ، و بالعدول عنه ، و تصويب استخدام المشيئة للوصول إلى كتاب القدر المسطور فيه الخير .
النفور من المصيبة ، مصيبة في حد ذاته ، و ضعف في الإيمان ، فأي ثبات على الإيمان هذا ، و أي ثقة في الله تلك التي دفعت بنبي الله إبراهيم عليه الصلاة و السلام أن يقول لإبنه (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) ، و أي قوة عقيدة ، و أي قوة إيمان بالخير في كل ما هو من عند الله في رد إبنه عليها الصلاة و السلام حين قال : ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) – الصافات
هذا الإبتلا العظيم ، و الإمتحان الصعب لقوة الإيمان و الثبات ، والتسليم بأن حتى النوازل هي لخير الإنسان ، و التعامل معها ( بإسم الله ) كانت هي الوصفة الأعظم ، و الأصح على الإطلاق ، لفك الغمة ، و دحر الأزمة ، و رفع النازلة ، فما كان من الله إلا أن (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )
و أخلص إلى أن مفتاح الفرج كما يقال ، هو إستقبال النوازل و المصائب بثبات ، و الإيمان بأن الله سيكشفها لا محالة ، و ستئول إلى خير عظيم ، و قد منحنا الله " الترياق " بشكل مباشر في قوله ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( 87 ) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ( 88 )
وكذلك ننجي ( المؤمنين ) تماماُ كما فعل نبي الله يونس عليه الصلاة و السلام ، أقر بخطأ الإمتعاض و الغضب ، و إعترف بقدرة الله و حكمته الذي قال {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن – وعلم أن الله أعطانا مفاتيح الإتزان ، و القدرة على تصفيف الأفكار و المعادلات و الأسباب في ( الكتاب ) ووعد بانه سينجي كل من يتوصل ‘إلى ما توصل إليه النبي يونس و يكون من ( المؤمنين ) .
فلنستبشر مهما قست النازلة ، و لنتوخى الخير من ورائها ، مؤمنين بعدل الله ، و رحمته ، و حتمية الخلاص طالما أن الإيمان واقر في قلوبنا و أفعالنا و إجتهادنا في إستعمال ما وهبنا الله من عقل و أشياء و تسخيرها لما فيه خير الإنسان .