تُرى هل بقيت زاوية تمُتُّ مقدار ذرة من صلة بالفيروس المدعو «كورونا»، غامض المنشأ، مجهول الهوية، خفي الشكل، لكنه المميت إذا ضرب ولم يُكتشف فوراً أنه تسلل لجسم ما، لم تشغل الناس، حتى الآن، ولم تبذر الخوف في جهات الدنيا الأربع، ومع ذلك لم يتناولها، بعد، أهل القلم، والحبر؟ نعم، مؤكد أن جوانب عدة لم تزل خفية، وربما القصة لم تزل في بداياتها، ذلك أن هذا الابتلاء باقٍ مع سكان المعمورة لأجل غير مُسمى، وربما حتى بعد اكتشاف دواء مضاد لهذا الداء، ومن ثم فإن الرجوع إلى قصة «كورونا» ممكن، ما لم يتمكن مني، وما دام هذا هو الحال، فلِم لا أستكمل موضوع مقال كنتُ بدأته قبل أسابيع عدة، وأعطيته العنوان التالي: «لو لم أكن فلسطينياً». إنما، للحكاية تفاصيل هنا ملخصها.
بدءاً، الإقرار بالعِرفان واجب، ذلك أنني استوحيت عنوان المقال أعلاه، ماشيا في اتجاه معاكس لمقال خالد البري «لو كنتُ فلسطينياً» - عدد «الشرق الأوسط»، الاثنين 24-2-2020 - وهو مقال أتفق مع جوهر مضمونه، بيد أنه عنوان ذكرني كم مرة راودتني فكرة أن أكتب عن مشكل مُضنٍ يواجه كل فلسطيني وفلسطينية، تقريباً، يعملان في مجال الإعلام - عربياً، أو دولياً، غير الفلسطيني عموماً - بمختلف فضاءاته، وخصوصاً إنْ هما مكلفان بالمسؤولية في موقع متقدم بمكان عملهما. أعني بالمشكل الاضطرار للجدال مع آخرين حول ما إذا كان الانتماء لفلسطين هو المتحكّم الأساس في الممارسة المِهنية. تجربتي الذاتية تحفل بشواهد كثيرة منذ احترفت العمل الصحافي بمدينة بنغازي أواخر ستينات القرن الماضي. أما في مشوار الاغتراب اللندني، فقد سمعت من إعلاميات وإعلاميين طالما شُهِد لهم ولهن برقي الأداء المِهني، كيف اضطروا للدفاع عن مهنيّتهم في مؤسسات معتبرة ذات صفة عالمية، على امتداد العالم كله، وليس بأي مكان محدد، رداً على الزعم أن فلسطينيتهم تلعب دوراً حتى في أسلوب نطق النبأ عبر المذياع أو التلفزيون. والطريف، أو المؤلم أحياناً، أن ذلك الجدال كان يحصل مع زملاء وزميلات عرب، وليس بتكليف من جهة مسؤولة، مثلاً، أو ناشر صحيفة.
لكن، بعيداً عن الإعلام ككل، وهو مجال معروف، في كل الثقافات وليس عند العرب وحدهم، بكثرة المتاعب وتعدد الدسائس والمقالب، يظل واضحاً لكل الناس كم هي معاناة الفلسطيني لمجرد أنه فلسطيني. سوف أستحضر هنا نادرة ترجع إلى أيام الصبا. بين أترابي من اعتاد القول إنه يتمنى، بعد استرجاع فلسطين، وقيام دولتها المستقلة، أن يعمل ضابطاً في جوازات المطار، أو الميناء، أو أي معبر، كي يُمطر كل من يأتي زائراً بسيل من الأسئلة خلال تحقيق طويل. طبعاً، فلسطين لم ترجع، ثم إن عدداً من ديار العرب وقع تحت مُرّ الاحتلال، وصار غير الفلسطيني أيضاً يقف في كثير من مطارات العالم يواجه سيلاً من أسئلة الاستجواب. هل هذا يكفي لأن يتمنى المرء لو أنه ليس فلسطينياً؟ كلا، الواقع أن الانتماء لفلسطين تسبب، ولم يزل، وسوف يظل، بآلام للفلسطيني لم يكن ليُبتلى بها لو لم يكن فلسطينياً. يكفي أن يُحمّل الفلسطيني، مثلاً، مسؤولية تراجع التنمية، وغياب الديمقراطية، وانعدام حرية الرأي بأغلب المجتمعات العربية بزعم أن الأولوية هي للقضية الفلسطينية. لقد سمعت، بنفسي، ثم قرأت، مَن يضع مسؤولية الفقر، والتخلّف في غزة على أهل القطاع، لأنهم ينجبون أطفالاً أكثر مما ينبغي. تصوّروا.
حقاً، لو لم يكن المرء فلسطينياً، فلن يواجه جهل بعض من اشتروا أضاليل دعاية إسرائيل بأن الفلسطيني باع الأرض للإسرائيلي، ثم تمر السنين ويواجه لوم مَنْ أضاعوا شاسع المساحات من أرضهم في كارثة الخامس من يونيو (حزيران) 1967 بزعم أنه لولا ضرورة استرجاع فلسطين لما كانت حرب، وما كانت هزيمة. ماذا أيضاً؟ تطول القائمة، إنما انسجاماً مع مالئ الدنيا وشاغل الناس، ربما لو لم أكن فلسطينياً، فلن أضطر بعد قليل لنفي أن قضية فلسطين هي المسؤولة عن اختراع وباء «كورونا» ونشره في أنحاء العالم. يبقى أن أختم بتوجيه شكر للكاتب خالد البري، القلم الشاب المتميز، أن حفزني عنوان مقاله لاستكمال هذا المقال، ثم أقول إنني لو لم أولد فلسطينياً، لكنت فلسطيني القلب والروح، كما أغلب أهل بلاد العرب الذين تعلقت أفئدتهم بفلسطين لسبب واضح جداً هو أنها فلسطين، وكفى.