لم نر شيئاً كهذا من قبل. جملة تكررت كثيراً خلال التعامل مع محنة فيروس «كورونا الجديد» (كوفيد 19) الذي أثار الهلع حول العالم، وأغلق المطارات والحدود، وعصف باقتصاديات الدول والأسواق العالمية، بل أدى إلى حبس ثلث سكان العالم (نحو مليارين و600 مليون نسمة) في منازلهم التزاماً بتوجيهات الوقاية من المرض والحد من انتشاره. سمعناها من الأطباء المنهكين في المستشفيات وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه مع تدفق المصابين وعدم وجود أسرة وأجهزة تنفس كافية في غرف العناية الفائقة، وسمعناها من الخبراء والمختصين والمسؤولين الحكوميين الذين واجهوا وضعاً طارئاً غير مسبوق، ومن الناس العاديين الذين طُلب منهم تغيير نمط حياتهم والتضحية مؤقتاً بشيء من حرياتهم حفاظاً على سلامتهم وسلامة الآخرين.
محنة «كورونا» كانت وما زالت امتحاناً للعالم، فماذا تعلمنا منها؟ وما هي الدروس للمستقبل؟
أولاً، في الحرب ضد الأوبئة والجوائح، مثل هذه، يصبح الأطباء والممرضات والمستشفيات والمعدات الطبية، لا الجيوش والترسانات العسكرية، هم الخطوط الأمامية في المعركة، لحماية الناس وهزيمة العدو الفيروسي الذي لا يرحم أحداً، ولا يفرق بين الدول أو يكترث للحدود. تعرت الدول التي تبني قوتها العسكرية، وتهمل خدماتها الصحية، وكشفت المحنة حجم أزمة الخدمات الصحية في جلّ دول العالم. فجأة اكتشف الناس أنه لا توجد أجهزة تنفس صناعي تكفي، ولا أسرة لاستيعاب المصابين، ولا تتوفر الأعداد المطلوبة من الأطباء والممرضين والممرضات. بدا واضحاً أن هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في الاستعدادات والترتيبات للطوارئ، وفي كيفية توفير الإمدادات الطبية اللازمة لحماية الناس، ومواجهة مخاطر الفيروسات المتحورة التي تتزايد مخاطرها على البشرية.
ثانياً، العالم لم يتعامل مع الأزمة باعتبارها أزمة دولية ينبغي مواجهتها بشكل جماعي منذ البداية، بل وقف متفرجاً على الصين حتى انفجر الوضع بوجه الجميع. فلو كانت هناك وقفة جماعية منسقة بغض النظر عن اعتبارات المصالح الضيقة وحسابات السياسة، لربما تفادينا استفحال الأزمة وتحولها إلى جائحة خارجة عن السيطرة ومنتشرة في كل ركن من أركان المعمورة.
الغريب أنه على الرغم من الانتشار السريع للفيروس في ووهان، فإن العالم لم يقف متفرجاً فحسب، بل إن غالبية دوله لم تتحرك لاتخاذ إجراءات احترازية كافية، ولم تضع خطط طوارئ سريعة لتجهيز المستشفيات وتوفير الإمدادات والكوادر الطبية وأجهزة التنفس اللازمة، فكانت النتيجة ردود الفعل المرتبكة والمتأخرة واستفحال الأزمة.
ثالثاً، حتى بعد تفشي الفيروس، انكفأ كل بلد على نفسه، وشكا كثيرون من أن طلبهم المساعدة وُوجه بالصد من دول حليفة، أوضحت أنها تحتاج مواردها لحماية مواطنيها. إيطاليا مثلاً عانت بشدة عندما أصبحت أكبر بؤرة للفيروس خارج الصين، بينما وقف الاتحاد الأوروبي مشلولاً وعاجزاً في البدء، عن ترتيب أي تحرك منسق فعال، فكان أن سارعت بكين لإرسال فريق من الأطباء وكمية من الإمدادات الطبية لروما، وتبعتها روسيا وكوبا. ربما يرى البعض أن هناك رائحة سياسية في هذه المساعدات لتعميق شروخ الاتحاد الأوروبي الذي يتوقع أن يواجه ارتفاعاً في نبرة أصوات الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة الداعية للخروج من الاتحاد أسوة ببريطانيا.
رابعاً، في ردود فعل كثير من الحكومات الغربية، بدا أن اعتبارات السياسة ومصالح أسواق المال والشركات تقدمت على الاهتمام بالتداعيات الإنسانية. فقد سارعت الحكومات في عدد من هذه الدول لإجازة حزم مالية لإنقاذ الأسواق والشركات، وتأخرت أو لم تفعل ما يكفي لتبني حزم لمساعدة الناس مباشرة، بعد أن تضرروا من تعطيل أعمالهم، أو سُرحوا من وظائفهم.
الانتقادات لم توجه للحكومات فقط على رد فعلها هذا، بل للنظام الرأسمالي الذي بدا مجرداً من الإنسانية عندما يسمح بأن تطغى مصالح الشركات وعوامل الربح على اعتبارات صحة الإنسان.
خامساً، الأزمة عمّقت الصراع بين الولايات المتحدة والصين، ووضعت إدارة دونالد ترمب تحت مجهر النقد. فبدلاً من أن تبرز أميركا إبان الأزمة قائدة للعالم، وتقدم نموذجاً في القيادة الأخلاقية المستعدة لمدّ يد العون، التي لا تخضع لحسابات السياسة في مثل هذه الطوارئ، فإنها ظهرت ضعيفة عاجزة عن مساعدة نفسها ومواطنيها.
الأزمة كانت أول امتحان بهذا الحجم لقيادة ترمب، ففشل فيه داخلياً وخارجياً، ما قد يكلفه انتخابات الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. فقد استخف بفيروس «كورونا» في البداية، واعتبره شيئاً عابراً لا يثير القلق، ثم حوّل الأمر إلى تشفٍ وتصفية حسابات مع الصين، وتأخر في اتخاذ الإجراءات اللازمة في بلده، حتى عندما تبناها فإنه بدا مهتماً بالوضع الاقتصادي وإنقاذه أكثر من اهتمامه بمخاوف الأميركيين من الفيروس المتسارع في الانتشار. وحتى هذه اللحظة فإنه يبدو مصراً على الاستعجال بإعادة فتح الشركات واستئناف النشاط الاقتصادي، غير آبه بتحذيرات العلماء والمختصين.
سادساً، المحنة أظهرت هشاشة الاقتصاد العالمي والأسواق المالية، وأن التعافي الكامل لم يحدث منذ الأزمة المالية عام 2008. وبعد ما سبّبه فيروس «كوفيد 19» من خسائر تجاوزت 4 تريليونات دولار، ومن تعطيل عجلة العمل والإنتاج وتوقف كثير من الصناعات، وتسريح العاملين بأعداد مخيفة، فإن العالم سيواجه ضغوطاً هائلة خلال السنوات المقبلة، مع التوقعات بأن التعافي الاقتصادي سوف يستغرق وقتاً طويلاً، يتجاوز توقعات البعض بأنه يمكن أن يحدث في غضون عامين أو ثلاثة.
سابعاً، خطر الأوبئة والجوائح الجرثومية يفوق خطر الحروب التقليدية لقدرتها على حصد أعداد هائلة من البشر، ولأنها لا تفرق بين حليف أو عدو، ولا تميز بين الناس لاعتبارات الجنس أو اللون أو الدين. كذلك لا يمكن لدولة بمفردها أن تتعامل مع الانتشار السريع للأوبئة، كما لا يمكن للدول الأخرى أن تقف متفرجة. لذا، فإن الأزمة أكدت الحاجة لدعم آليات إنذار مبكر، وأجهزة تنسيق مشترك لمواجهة هذه المخاطر، مثلما أوضحت خطأ سياسات إضعاف المنظمات الدولية المعنية، وعدم توفير الأموال المطلوبة لمراكز البحث العلمي.
ثامناً، سياسات الدواء تحتاج إلى إعادة نظر، ولا سيما وقت الأزمات الكبرى. ففي ظل محنة «الكورونا» انطلق سباق محموم بين الشركات للتوصل إلى عقار سيحقق بالتأكيد أرباحاً طائلة. العالم بلا شك كان سيستفيد أكثر لو كان هناك توحيد للجهود في البحث عن هذا العقار، وهو أمر ربما كان يقتضي تدخلاً ومبادرة من الحكومات. لكن مرة أخرى تطغى حسابات السوق وعوامل الربح والسياسة، على اعتبارات صحة البشر.
تاسعاً، فيروس «كورونا الجديد» ربما انتقل من الوطاويط أو الثعابين إلى الإنسان، لكنه ينبه العالم أيضاً إلى التهديد الكبير المحتمل من انتقال الإرهاب التقليدي إلى استخدام الأسلحة الجرثومية، ما يستدعي تكثيف التعاون والاستفادة من دروس الأزمة الراهنة لتكثيف الاستعدادات لمواجهة العدو الفيروسي، سواء أكان طبيعياً أم بفعل فاعل.
«كوفيد 19» لن يكون آخر التهديدات الجرثومية للعالم، لكنه كشف أوجه قصور كثيرة، ما تزال تظهر، ودقّ ناقوس الخطر، عسى الناس يتداركون، قبل أن يكون القادم أسوأ.