إنشغال الناس بالبحث عن علامات القيامة ، و آخر الدنيا ، و ظهور المهدي والدجال و عودة المسيح ، ودعم الصهيونية لحشد اليهود في جبل صهيون ، و إرجاء تحرير الأمة الإسلامية و بلاد العرب و المسلمين إلى المهدي المنتظر ، و التركيز على بحث تفاصيل الحياة الأخرى و ما بعد الموت ، و إعطاء صكوك الغفران ووصمات التكفير و تذاكر جهنم .. و تشظي الين إلى أديان ومن ثم محاولة المقاربة بين الهراء هنا و الشعوذة هناك ، بما يسمى تقارب الحضارات و الأديان ، هي علامات واضحة بحد ذاتها ، ليست من علامات الساعة بل من علامات الضياع في الدنيا و دمار الحياة ، و نتاج حتمي لحالة العــولمة الفكرية و الإقتصادية و السياسية ، و هيمنة معبود البشرية الجديد بثقافته المفروضة .. وهي تماماً عكس إرادة الخالق تعالى من خلق الأرض و إستخلاف الإنسان .. فغاية الخلق العبادة ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ الذاريات: 56-58 ، و العبادة و التسبيح تعني التنزيه و العمل بما يرضي الخالق ، من وزن و إتزان و تفعيل للمشيئة .. ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار ﴾ - إبراهيم33
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) لقمان، آية 20، ﴿وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾ البقره296 ، وخير عبادة و خير إتزان و توازن هو الوصول إلى غاية الإعمار في هذه الأرض .. ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ﴾ هود61
عملية ( توحيد ) وتلوين العالم بلون واحد خلقت حالة الخبل ، و سوء التقدير ، و السطحية ، وما صحبها من نوازع و غرائز ظهرت على البشرية و تعززت حتى أصبحت مذاهباً سياسية و مبادئ إجتماعية ، و رؤى فلسفية كانت ومازالت أحد أهم علامات الساعة الدنيوية ، و الخراب " المستعجل " الذي نعيشه اليوم ..
حالة ( التوحد ) المعرفي ، و المطلبي التي صبغت حياة الأمم بفعل و أمر العولمة، فبات ما يميز ثقافة عن أخرى لا يكاد يرى و لا يحس ، فالياباني في مسلكياته و مطلبياته و إحتياجاته بل و حتى ملابسه و حليه أصبح يشبه المكسيكي و الألماني و الأمريكي و العربي و التركي و الإيطالي .. إلخ ..
مظاهر الإنشغال و الإهتمام توحدت بشكل كبير ، و زاد الطين بله تلك الروابط المصالحية و الإقتصادية ، و تذويب الثقافات و توحيد أو تقارب أنماطها ، فضلاً عن التجييش السياسي و الإقتصادي و ما إلى ذلك من روابط تقنية ، خلقت ما يسمى بالعولمة ، و من ثم برز مصطلح إتصالي تواصلي ، منافعي ومصالحي ( العالم قرية صغيرة ) ذات طبائع مشتركة و شكل متقارب متناسق إلى حد بعيد ..
فقدان صفة ( المدينة ) و الإقتراب من صفة ( القرية ) كانت وما زالت بداية هذا التأرجح و الخلل في إتزان و توازن العالم و تخبط الإنسانية و إستحقاقها لتدخل آيات الله في ضبط الأمور ، علهم يرجعون ..
فمن المعروف أن ( القريـــة ) لا تسمى (قرية) إلا إذا كان سكانها من نسيج واحد مؤتلف ؛ كأن يكونوا من نسب واحد ، أو عقيدة واحدة ، أو صفة واحدة ،و القريــــة كما عرفها علماء اللغة العربية ؛ هي مجتمعٌ سكانيٌّ ، في مَكَانٍ اتَّصَلَتْ بِهِ الْأَبْنِيَةُ وَاتُّخِذَ قَرَارًا ، تقع على المدن وغيرها ، وقد سمِّيت قريةً لاجتماع النَّاس فيها . وبالرجوع إلى أصل الكلمة تبين أن (القرية) مشتقة من القرار في المكان ، أو من الاجتماع فيه ، يقال قرى الماءَ في الحوض إذا جمعه فيه ، أو هي مشتقة من القِرَى بكسر القاف بمعنى الضيافة . لأن قِرى الضيف من عادة سكان القُرى .
أما ( المدينة ) فهي البلدة التي يسكنها أشخاص ليسوا من نسيج اجتماعي واحد ، والمدينة مشتقة من مَدَن أي أقام ، يقال مَدَنَ في المكان إذا اقام فيه واتخذه موطنا له . وهي فعيلة تُجمَعُ على فعائل ، مدينة مدائن ..وفي المجتمعات المدائنية تتجلى حمة الله من الخلق و التدافع و الإختلاف (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحج 40 .
إذن فالتدافع ، و الفعل ( فعيلة و فعائل ) هي الغاية المنشودة ، و الصفة الضامنة لإستمرارية سير الحياة البشرية بإتزان و توازن ، أنا القرار و التقري و التوحد فهو عكس إرادة الله في خلقه ، حيث أن الصمدية و الوحدانية هي صفة من صفات الله تعالى ولا يمكن أن تنطبق على مخلوقاته ولا حتى أكرمها و هو الإنسان في مجتمعاته ..
التواصل و التعارف ، و التثاقف دون توحد أو تماهي و تعولم هو المطلوب ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ الحجرات-13
إن ما ذهب إليه الإنسان ، و الأمم من مفاهيم ( العولمة ) هي أساس البلاء ، و أس المصائب التي حاقت بنا ، فالعولمة تعني جعل الشيء عالمي أو جعل الشيء دولي الانتشار في مداه أو تطبيقه. وهي عملية اقتصادية في المقام الأول، ثم سياسية، ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية وهكذا. أما جعل الشيء دولياً فقد يعني غالباً جعل الشيء مناسباً أو مفهوماً أو في المتناول لمختلف الأمم و الشعوب في دول العالم. وتمتد العولمة لتكون عملية تحكم وسيطرة ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول وبعضها البعض. سيطرة فكرة و ثقافة ، بل و أديان ، و أخطرها عملية نسف المعتقد ، لأعادة بناء معتقدات متشابهه !! و الأكثر تأثيراً في شكل هذا النظام المتعولم ( Golbal ) هو الأقوى و الأقدر على بسط هيمنته السياسية و الثقافية و الفكرية ، هو الصنم المعبود الجديد للأمم كلها ، حيث تعبده الإنسانية زلفى بواسطة ما ليها من معتقدات مشوهة تصب في النهاية في خانة الولاء له ، و:ان البشر جميعاً يرددون ( لبيك يحدونا الأمل الحمد لك والشكر لك والكل لك يخضع لك)
(أفَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍۢ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ ٱللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) الجاثية 23
هذا التفشي ، و التماهي بين ثقافات الشعوب و الأمم ، هو ما عكر صفاء الثقافات بل إمتد ليدس في المعتقدات و الملل و الشرائع ما يفسدها و يغير في أصولها ، و هو الذي بث في أمه محمــد عليه الصلاة السلام ، و باقي الأمم أيضاً ، أفكاراً تطورت لتصبح عقائداً و ثوابتاً بعضها بحجة ( التمدن – Modern Lifestyle وبعضها بحجة الحفاظ على الموروث و السلف و التراث و الأصول فنشأ ما يسمى بالعنصرية الفكرية و الدينية و التشدد وبل و الإرهاب ) و هي مدسوسة من ملل و فلسفات و خزعبلات وشرائع أخرى .. فأصبح العالم كأنه ( أمه واحدة ، تدين بمعتقدات متقاربة و ثقافات متشابهة ) و بالفعل نجح الذين أرادوا للأمم أن تتوحد تحت مظلة عولمة واحدة إلى حد بعيد .. فأحالوا العالم إلى قرية .. فإستحقت بما كسبت من إجتماع و تشابه في الفساد ، و الطغيان ، إستحقت ما تواجهه الآن من إضطراب في البيئة يؤثر على أقصى أمم الشرق كما يؤثر على أقصى أمم الغرب ، و إنحدار أخلاقي و مجتمعي و إنحلال و تفكك أسري و أفات إجتماعية و نفسية نماذجها في الغرب تتشابه مع نماذجها في الشرق ..
إن أولى خطوات ( الخلاص ) لابد أن تتمثل في العودة إلى الأصول و الثقافات و تنقيتها من الشوائب ، الإختلاف و التباين بين الأمم هنا أمر محمود و مطلوب ، لأنه يعيد إختلاف مكونات و مركبات و معاملات معادلة الحياة إلى أصلها ، فتتزن و تعطي نتائج لخير البشرية . ولابد من إعادة تعريف " العولمة " بحيث لا تتضمن سيطرة وعبادة هبل جديد ، يأمر بتوحيد الثقافات و الملل ة إحالة الدنيا إلى قرية متشابهة الشكل و الجوهر ، بل إلى مجتمعات متعاونة و تتبادل الثقافات و التنوير بالتعارف فيما تختلف فيه و تتنوع أصولها و ثقافاتها فالإختلاف رحمة .. ولكنه يجب ألا يفسد للود قضية ..