أعود بذاكرتي إلى سنوات بعيدة مضت ....إلى ايام الطفولة حين لم اتجاوز  من عمري العشر سنوات، حيث كنت ارافق جدتي في الصباح الباكر إلى الطابون، كانت تحضر جدتي العجين بالليل وتصحو في تمام الساعة الخامسة صباحاٌ لتصلي الفجر وتطعم الدجاج، ثم تذهب الى الطابون لتخبز، وتصنع فطائر  الزعتر والسبانخ الشهية التي تتكون من البصل والزعتر والسبانخ والسلق والحميض المزروع في حديقة المنزل الخلفية ...وزيت الزيتون الذي تم استخلاصه من أشجار الزيتون المزروعة في الجبل المقابل للمنزل....والطحين الذي كان مصدره القمح المزروع في أرض جدي السهلية ...يعني باختصار كانت وجبة الفطور تصنعها جدتي من ألفها إلى يائها....وهي التي امتلكت حديقتين منزليتين إحداهما خلفية،  وتبلغ مساحتها  دونمين من الأرض المزروعة، والاخرى امامية وتبلغ مساحتها حوالي دونم، زرعت فيهما اغلب انواع الخضار والفواكه...ومن المزروعات التي احتوت عليها حدائق جدتي: الزعتر، والسبانخ، والنعناع، والميرمية، والبندورة، والبطاطس، والخيار، والفقوس، وورق اللسان، والفول...كما زرعت أشجار البرتقال والليمون والخوخ  والتفاح والجوافة والسفرجل واللوز الفركي ..والدوالي والمشمش....وكانت تربي حوالي خمسين دجاجة  ... ولديها اكثر من ديك  ....كانت تذبح جدتي الدجاج البلدي لتطهي طعام الغذاء مثل الملوخية والمقلوبة...اما الديوك فكانت تحتفظ بها للزوار والضيوف  فتعد لهم مائدة غذاء فاخرة مثل اكلة المسخن او المفتول الشهية، تتبعها ببعض الحلويات الشعبية التي كانت تصنعها على موقد النار مثل "اللوزيقيات" وهي خبز هش مفطر وعليه سكر او الكلاج المكون من عدة طبقات محشوة باللوز او الجبن، او لقمة القاضي" كما كانت تسميها جدتي" و المعروفة لنا اليوم " بالعوامة". كما كانت جدتي تصنع رب البندورة على الحطب من البندورة الطازجة، وتصنع الطابون من الزيت والقطرونة، وتصنع الجبنة واللبنة من الحليب، وتقوم بتجفيف الزعتر وطحنه لعمل "الدُقة"  ... وكان لدى جدتي بئر ماء ...تشرب وتطبخ من ماء البئر وتسقي الدجاجات.. كانت أجمل لحظات حياتي حين اذهب لاراقب دجاجات جدتي وهي تبيض، واحصل على البيضة وهي لا زالت ساخنة...احملها واركض فيها لاخبر جدتي بذلك وانا في منتهى السعادة....تجمع جدتي بدورها البيض، وتقوم بإعداد  مائدة عائلية من البيض البلدي المقلي مع البطاطس الطازجة 
او البندورة، والفول الأخضر بالزيت، وزنابيط البصل مع البيض ايضاً، واللبن البلدي، وكُله "organic " أي تم الحصول عليه بالاعتماد على الزراعة الطبيعية دون اضافة اي مواد كيماوية ...لم أذكر أن جدتي كانت تشتري  شيئاً سوى بعض الحاجيات البسيطة...لذلك كان لا يهمها الحصار ولا منع التجوال ...فهي تستطيع أن تمول نفسها لأشهر عديدة ....فقد احتفظت بالقمح في " الخابية" وهي خزانة لتخزين القمح والطحين، كما كانت تخزن الحلبة والسمسم والعدس والقزحة والجبن واللبنة بالزيت والزعتر وزيت الزيتون، بما يكفي لسنة كاملة على الاقل.." وتسميها مونة السنة"... حدثتني جدتي عن المجاعة التي حدثت في منطقة جنين سنة ١٩٤٧، حيث اكتسحت اسراب الجراد مناطق فلسطينية عدة، منها جنين ونابلس طولكرم و قلقيلية، واستمر الجراد بمهاجمة المحاصيل الزراعية لأكثر من ثلاثة أشهر، اكل فيها الأخضر واليابس، ودمر المحاصيل، وسلب المنتوج السنوي من المواد الغذائية...فلم يجد الناس ما ياكلونه سوى القليل...خاصة محصول القمح الذي تأثر بشكل كبير ...قالت لي جدتي: " في سنة الجراد جاع بعض الناس، وكنا نستعيض عن الخبر وقتها "بالكراديش" وهي خبز مصنوع من الذرةِ،،"..لان القمح شح وجوده في تلك الفترة...وبرغم الجوع الذي انتشر ...الا ان جدتي لم تتأثر كثيراً لان لديها المخزون الاحتياطي من الأغذية...كما لديها روح التعاون التي كانت منتشرة بين الناس، فالعطاء هو سيد الموقف، والمشاركة أجمل ما يحكم العلاقات بين الناس، فالجار للجار، والقريب من اهل الدار ...وطعام واحد بقضي اربعين، واللقمة الهنية بتشًبع مية، وكل هذه أمثال كانت تحكم حياة الناس آنذاك وكانت بمثابة دستور يحكم حياتهم....كانت جدتي بالفعل امرأة عصامية وقوية واستطيع أن أطلق عليها المراة الحديدية ...وهي ليست الوحيدة التي كانت تأكل مما تصنع وتزرع وتربي،،،إنما غالبية المجتمع الفلسطيني كان يعتمد عن الانتاج الصغير والمحدود، ولا يعتمد على الاستهلاك البحت للمواد الغذائية كما هو الحال عليه الآن ....لذلك كان الناس متمسكين بالارض التي عرفوا قيمتها جيداً..  فهي مصدر رزقهم..والملاذ الوحيد لتجاوز كافة المحن...فمن لديه قطعة ارض والقليل من المواشي يصمد بهم لسنوات ...فعلى الأرض يعيش، ومن الأرض يأكل ويطعم المواشي، وعلى الأرض يعمر  ويبني لاولاده واحفاده، ويزرع الأرض ويحزن الماء في جوفها .. ويتنزه في الأرض ...كان جدي يقول الأرض افضل استثمار لانها لايمكن أن تخسر قيمتها، وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع ...فالبورصات تنهار، والعملات تفقد قيمتها، وكافة الاستثمارات معرضة للانهيار ...الا الأرض قيمتها كبيرة و بازدياد مستمر ولا تضاهيها أي قيمة لأي ممتلكات اخرى...وما أحوجنا الآن للارض لكي نزرع مثل جدتي ...ونشعر بالأمان كما كانت تشعر .... وليكن وباء كورونا جرس إنذار لنا جميعا لتغيير اهتماماتنا والتوجه نحو الاشياء التي لها قيمة حقيقية، ولتكن هذه الجائحة بمثابة دعوة للمجتمع الفلسطيني للعودة لتاريخه وجذوره التي ارتبطت بالإنتاج كقيمة اساسية، ولترسيخ كافة المفاهيم الإنسانية والقيمية السامية القديمة التي كان يحلها آبائنا واجدادنا ...فالأرض هي أثمن الممتلكات فلنحافظ على ما تبقى منها...وكما قال شاعرنا العظيم الراحل محمود درويش " على هذه الأرض ما يستحق الحياة".