شوَّش «كورونا» كثيراً على فكرة الانفصال الفلسطيني عن إسرائيل، وفق الاتجاه الذي بشرت به حكومة الدكتور محمد أشتية، وعنوانه الانفكاك التدريجي عن إسرائيل، وأساساً في المجال الاقتصادي.
كان الأمر في الواقع تجربة تستحق أن تخاض، وقد بذلت الحكومة الفلسطينية جهوداً حثيثة في هذا الاتجاه، وضمن إمكانياتها شديدة التواضع حاولت إنجاح التجربة على الصعيد الزراعي، ثم انتقلت إلى التقليل من التعامل التجاري مع إسرائيل (الاستيراد) الذي كان احتكارياً في كل المجالات.
كما بذلت جهوداً مضنية في مجال توفير النفط ومشتقاته من الجوار العربي، بما في ذلك العراق، غير أنها اصطدمت بمعوقات كانت تعرفها مسبقاً، إلا أنها راهنت على إمكانية التحايل عليها أو تجاوزها. أهم هذه المعوقات: سيطرة إسرائيل على المعابر الفلسطينية، وسيطرتها كذلك على المال الفلسطيني، بحيث تعتقله وقتما تشاء، ولأسباب سياسية وأمنية، وتطلق سراحه أيضاً وقتما تشاء، ولحاجات سياسية وأمنية كذلك، فضلاً عن أن إسرائيل هي المشغِّل الأساسي للعمالة الفلسطينية التي هي أحد أهم الممولين الماليين للاقتصاد في مناطق السلطة (الضفة وغزة).
كان متوقعاً أن تصطدم سياسة الانفصال الاقتصادي بهذا الحشد المخيف من المعوقات الإسرائيلية، إلا أن إمكانية تحقيق بعض الإنجازات في هذا المجال ظلت قائمة، حتى لو كانت وفق أكثر التقديرات تفاؤلاً تعطي مردودات محدودة.
المعوقات الكبرى والموروثة عن اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، رغم قوة تأثيرها فإنها بدت متواضعة أمام ما أنتجه «كورونا» في شهر واحد. ووفق تصريحات وزير المالية الفلسطيني السيد شكري بشارة، فإن تراجع الموارد المالية الفلسطينية مرشح للهبوط هذا الشهر بنسبة 70 في المائة، ومن دون هذا الهبوط كان الاقتصاد الفلسطيني معتلاً وعلى حافة الانهيار، فكيف سيكون الحال بعد هذا الهبوط المفاجئ، والمرتبط بأمر مجهول، وهو نهاية عهد «كورونا»؟
الحالة الاقتصادية الفلسطينية، ومنذ بداية تأسيس السلطة، كانت ولا تزال مرتهنة وبنسبة عالية بوفاء المانحين بالتزاماتهم التي كانت في البدايات تقدر بالمليارات، وحتى قبل «كورونا» تراجعت إلى أدنى حد ممكن، حتى صارت مساعدات إسعافية أكثر من أنها تساعد على بناء اقتصاد مستقر. وإلى جانب هذا المصدر الرئيسي تأتي المداخيل التي تمر حتماً وإجبارياً من إسرائيل، كالمقاصة التي تتولاها بالأجرة. ورغم أنها من حقوق الفلسطينيين الخالصة فإن إسرائيل تتصرف فيها وفق أجنداتها وبرامجها، وفرض السيطرة الدائمة على الحالة الفلسطينية بكل مكوناتها.
كذلك كانت العمالة في إسرائيل التي بلغت في وقت ما مئات الآلاف مصدراً أساسياً يضخ الدم في شرايين الاقتصاد الفلسطيني، وهذا أيضاً تتحكم فيه إسرائيل وفق أجنداتها.
بفعل التراجع المتوقع للمداخيل الفلسطينية، لم تجد السلطة مفراً من فتح مفاوضات جديدة مع إسرائيل، بهدف تحصيل المال الفلسطيني المحتجز لديها، وكذلك انتظام وصول خمسمائة مليون شيقل شهرياً فيما يشبه السلفة، إلى حين عودة المياه إلى مجاريها، أي عودة المال إلى التدفق كالسابق في الخزينة الفلسطينية، وهذا أمر يعتريه بعض الشك.
التطورات فيما يتصل بصفقة الخمسمائة مليون شيقل شهرياً، تبدو حتى الآن إيجابية، أو في حكم الموافق عليها، ومع التسليم بأن الصفقة هي مجرد إجراءات إنقاذ، فإن قلقاً يسيطر على الفلسطينيين جراء الاضطرار إليها. ومصدر القلق - حسب التجربة - هو الطريقة الإسرائيلية في التعامل مع المال الفلسطيني، فالسداد يكون مزدوجاً مالياً وسياسياً: مالياً لن يضيع على إسرائيل فلس واحد، لا مما تعتبره مالها الخاص، ولا من المال المستولى عليه من الفلسطينيين، فهي تتصرف كما لو أن المال كله لها. أما سياسياً فهي تخطط لتقصم ظهر الفلسطينيين اقتصادياً، لحملهم على تقديم التنازلات السياسية، و«صفقة القرن» واقفة وراء الباب.
يتساءل الفلسطينيون: ما الذي يمكن أن تفعله سلطتهم إذا ما صارت الصفقة الاضطرارية فعلاً طويل الأمد؟ وكيف يمكن الإفلات من قبضة الدائم المتحكم الذي أدخل حتى الهواء الفلسطيني في مساوماته السياسية.
الاتجاه التقليدي الذي تعودت عليه السلطة في مجال المداخيل، هو أن تطلب من العالم تقديم المساعدات للفلسطينيين، انطلاقاً من أن مشروع السلطة الوطنية الذي هو مشروع دولي سيكون عرضة للانهيار. كان هذا مفهوماً وفعالاً حين كان هنالك مجال ولو ضيق لتقدم المسار السياسي الذي يرضى عنه العالم، أما الآن ففي غياب التقدم السياسي واستبداد «كورونا»، فسوف تكون المخارج أكثر صعوبة.