يبدو أنني تأثرت أكثر مما يجب بما قرأت خلال الأيام القليلة الماضية. كنت قد نحيت جانباً ما كتبت وكتب أصدقاء وبينهم علماء سياسة وإعلاميون ومتخصصون، وكلنا أبناء أجيال أقدمها تمتد جذوره الفكرية إلى أعماق الفكر المناهض للاستعمار الغربي. عشنا نكتب متأثرين بما نشأنا عليه، وكذلك مدفوعين بالحرص على تبرئة ما نكتب من تهمة الانحياز ضد الغرب ومن تهمة أشد قسوة ألا وهي الانحياز للغرب. بالغنا أحياناً. بالغنا في تحميل الغرب مسؤولية كل ما جرى لنا منذ أن اشتبكنا معه وخرجنا منهزمين. وفي الوقت نفسه بالغ الغرب في رسم صور مستوحاة من رغباته وأطماعه عن شعوبنا وطرائق تفكيرنا وأساليب الحكم. وفي السنوات الأخيرة راح يختار من بين دولنا دولاً قرر أن يعتبرها فاشلة بعد أن وضع لها بنفسه معايير هذا الفشل وطبقها عليها.
نحيت جانباً ما نكتب لأتفرغ لقراءة ما يكتبون. سهل وبسيط جداً في ثقافتنا المركبة أن ننكر مسؤوليتنا عن مصيبة وقعت، وغريب ومثير جداً أن نرى مفكرين كباراً في الغرب يعترفون بمسؤولية بلادهم عن كارثة قد تودي بأسس الحضارة الغربية. قرأت لكثيرين، لكن أخص بالذكر بعضاً قليلاً منهم جوزيف ناي، وجيفري ساكس، وريتشارد هاس..
نقلت «وول ستريت جورنال» قبل أسابيع عن هنري كيسنجر قوله، إن العالم سيبدو مختلفاً تماماً بعد انحسار كارثة الفيروس القاتل. يستتر وراء هذا الرأي في مستقبل النظام الدولي اعتقاد كيسنجر بأن السياسيين الذين تولوا أعلى مناصب الحكم في الدول العظمى أساءوا إدارة الحكم في بلادهم، وإلا ما تغير النظام الدولي أو يتوقع له كيسنجر أن يتغير جذرياً فور انحسار الوباء. وقع في تصوري دائماً ومنذ أن ظهر كيسنجر محللاً ثم مستشاراً في البيت الأبيض ووزيراً في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، أن الأكاديمية الأنغلو سكسونية لم تثمر حكيماً ومنظّراً في علم العلاقات الدولية، وبالذات في نظريات صعود وانحدار النظام الدولي في مقام كيسنجر وقدراته. لذلك؛ فإن كيسنجر عندما يقترح اقتراب موعد الانتقال من نظام دولي إلى آخر يكون قد قرر التالي:
أولاً: أن المسؤولين عن إدارة النظام الدولي القائم فشلوا في مهمتهم، وأنهم بعجزهم تسببوا في إسقاط نظام. بمعنى آخر، سمح كيسنجر لحوارييه وزملائه أن يطبقوا على نظرية العلاقات الدولية نظرية مستعارة من نظريات الحكم المقارن في علم السياسة، وهي النظرية التي تقرر أن دولة من الدول استحقت الحكم عليها بالفشل فتصير سمعتها في مجتمع الدول أنها دولة فاشلة. آخرون من عباقرة العلاقات الدولية ساروا على النهج نفسه، أي الاعتراف صراحة بسقوط النظام الدولي وبالحاجة الماسة إلى قيادات سياسية جديدة تتولى إدارة عالم جديد في طور النشأة.
ثانياً: أن الآتي يستحيل التنبؤ بشكله أو عقيدته أو مؤسساته. كيسنجر الذي كان يجب أن يعرف قبل غيره ملامح النظام القادم لم يظهر عليه حتى الآن أنه يعرف، وهو من دون شك أمر لا يرضي غروره المعروف، وقد أصابنا بعض رذاذ منه خلال زيارته الشهيرة لمصر خلال وقف إطلاق النار في حرب رمضان. أخمن أنه لا يعرف لأن الفوضى الناتجة من سوء أداء فاحش من الطبقة السياسية التي تحكم عالم اليوم نشرت سحابة تحجب رؤية حقائق كثيرة.
لا خلاف كبيراً على أن مسلسل الأوبئة، وآخر حلقاته وباء «كورونا»، كان متوقعاً على ضوء دخول العولمة مرحلة انحسارها. انحسرت فأدى انحسارها إلى انهيارات في أداء النظام الدولي، مثل تفاقم اللامساواة وتراجع الديمقراطية وتدهور أداء المؤسسات الدولية وتراجع العمل الدولي المشترك وتعدد الثورات الشعبية. من ناحية أخرى، تدهور أداء قيادات الحكم في دول كثيرة وامتد التدهور ليصيب العولمة اعتناقاً أو مسايرة. في الحالتين وقع الفشل صعوداً من الدولة إلى النظام الدولي أو نزولاً من العولمة إلى كل دولة على حدة. وفي الحالين تعمق الفشل بغياب الإدارة الرشيدة والقيادات السياسية المدربة، ليس فقط في كل دولة على حدة، بل وفي مؤسسات العمل الدولي أو الإقليمي المشترك. يؤكد هذا الحال الوضع الراهن في الإقليم العربي، حيث تعددت علامات الفشل على جسم المؤسسة الإقليمية، ومن هناك امتدت العدوى إلى الدول كل على حدة، ويبدو أن الفشل الذي كان علامة فارقة على واقع الأداء المنفرد لكل دولة في النظام العربي على امتداد العقود الأخيرة امتد بدوره إلى أداء النظام الإقليمي العربي فانهار أو يكاد يعلن فشله في لحظة أو أخرى.
العلاقة بين سوء أداء نظام الحكم في دولة تتولى مهمة تسيير نظام إقليمي أو دولي وانحدار مكانة وأداء النظام الإقليمي أو الدولي ومؤسساته، علاقة عضوية كعلاقات الكائنات الحية بعضها بالبعض الآخر. العكس صحيح في غالبية الأحوال. بمعنى أن تدهور أداء النظام الإقليمي أو الدولي سبب ضروري إن لم يكن كافياً وراء تدهور أداء الدول الأعضاء الأكثر تأثيراً بالنظام وتأثيراً فيه. المؤشرات كثيرة في الحالتين. لدينا مثلاً في كارثة حرب الغرب ضد العراق بسبب فشل نظام القطبين وانهياره وانحدار، وربما عجز أداء، النظام الحاكم في الولايات المتحدة، ومثلاً آخر في أزمات العمل الأوروبي المشترك وخروج بريطانيا، ومثلاً ثالثاً في ظاهرة دونالد ترمب وتدهور التحالف الغربي، الركن الركين في النظام الدولي المتردي وأي نظام دولي جديد.
يعتقد جوزيف ساكس، الاقتصادي الشهير وصاحب معظم الأفكار التي جرب الرئيس فلاديمير بوتين تنفيذها بعد فشل بوريس يلتسين، أن النظام الدولي فشل بسبب هيمنة شخصيات وأنظمة حكم ديماغوجية أو غير مدربة أو مؤهلة على الحكم في معظم دول العالم. أدى سوء أدائها إلى وصم النظام الدولي القائم بالفشل في مواجهة مشكلات قيادة العالم والمحافظة على رخاء الشعوب وضمان صحتها وتقدمها التعليمي والعلمي. يعتقد ساكس أن وجود ديماغوجيين على قمة الحكم في البرازيل والهند والولايات المتحدة سبب كافٍ لفشل النظام الدولي.
لجوزيف ناي، أستاذ العلاقات الدولية، رأي آخر في فشل النظام الدولي. يعتقد أن وراء الفشل التحول من التمسك بالجانب الأخلاقي في عقيدة الحكم في أميركا إلى اعتناق القومية المفرطة والأنانية القصوى. ففي أقل من أربع سنوات انسحبت أميركا من وكالة «الأونروا»، وأوقفت تعاملها مع «اليونيسكو»، ومن طرف واحد ألغت التزامها بمعاهدة التسلح النووي ورفضت الانضمام إلى اتفاقية التغير المناخي، والآن ورغم الحرب الدائرة مع الفيروس تهدد بوقف دعمها المادي لمنظمة الصحة لعالمية. هذه الأعمال وغيرها مجتمعة تقدم الإشارة التي لا تحتمل التأويل أن اذهبي أيتها الدول كل إلى شأنها الخاص فلسنا في حاجة إلى أحد، اذهبوا لسنا في حاجة إليكم. عندما كنا القطب الأوحد ساهمنا في صعود الصين وعودة روسيا دولة قوية وأوروبا كتلة واعدة. وعندما تعددت القوى الصاعدة وبلغت المنافسة أقصاها تركنا الساحة وفضّلنا العزلة والعمل الأحادي.
يعتقد أكثرهم أن النظام الدولي الراهن خلف في تدهوره حالة اجتماعية سيئة. يتصدر هؤلاء محمد العريان الذي يكاد يتوسل، لا أعرف لمن، منح الفقراء والفقر عامة أولوية الاهتمام عند التفكير في شكل النظام الدولي الناشئ ومؤسساته. يتوقع العريان عالماً مختلفاً كالذي توقعه هنري كيسنجر، لكنه على الأقل يعين الفقر والفقراء عمود الارتكاز في النظام القادم ولا يرى سحابة تخفي الواقع الموجود فعلاً على الأرض.
كنت قبل فاجعة الفيروس قادراً على الغوص في احتمالات مستقبل بسيط التكوينات والأهداف. أعترف بأن الفيروس وخوفي منه على عائلتي وبلدي، بل وكل عالمي عناصر تضافرت في الأسابيع الأخيرة لتحد من هذه القدرة، ولعلها نجحت.