على عكس الحروب ، المحدودة و حتى العالمية منها ، التي تحصد أول ما تحصد الشباب ، وكانت في سابقاً تحصد أرواح الشباب من الذكور ، و تبقي على الكهول و العجائز و الفتيات ..
وأي مراجعة لواقع الحال الناشئ بعد الحروب العالمية ، و ما تلاها من حروب إقليمية ، يعطي فكرة واضحة عن طبيعة التغيرات الديموغرافية ، و بالتالي المجتمعية و السلوكية و الإقتصادية و السياسية التي تصبغ المجتمعات ذات الأغلبية السكانية من الكهول و النساء و الأطفال ..
و ربما أن الثورة الصناعية ، و ثورة المرأة لنيل حقوقها ، في العمل و المساواة ، و من ثم تردي الأخلاق و إنتشار الإنحلال، و تعايشت معها المجتمعات بل أصبحت أحد ملامح التقدم و الحضارة في كثير من المجتمعات الإنسانية ..
و نحن اليوم ، في مواجهة معركة شرسة ، تشنها الطبيعة على الإنسان .. و تستهدف هذه المرة الكهول في المقام الأول , و عدد الوفيات إلى تاريخ كتابة هذه الأسطر في شهر مايو 2020 زاد عن ربع المليون نسمة .. معظمهم من الكهول الذكور .
وتشير تقديرات متفائلة ، أن هذه النازلة ، التي تخطت توصيف الوباء ، و الجائحة ، لتصبح نازلة عالمية ، ستبقى في حالة هجوم ربما لسنة قادمة ، بل إن بعض الدراسات و الدارسين و المتخصصين ، يتحدثون عن سنوات و سنوات .. مما دفع نظام العالم إلى " إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ" و قرر أن الحالة المادية ، الإقتصادية ، و كيانات الدول لا تتحمل الخسائر المترتبه على محاولات الوقاية من هذه النازلة ، خاصة في ظل إنعدام التوصل إلى مصل مضاد ، أو توقع الوصل إليه في السنوات القادمة ، و إلى فشل كثير من بروتوكولات العلاج حتى الآن ، فقرر إعادة الحياة إلى مجاريها بشكل تدريجي ، و من يموت يموت ، و هو يعرف أن الفايروس يستهدف بشكل رئيس ضعاف المناعة من الكهول و خاصة الذكور نظراً للطبيعة التشريحية للإنسان .. * كَلاَّ إِنَّهُ كان لآياتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً*
هذا يعطي إرهاصة واضحة ، للنتائج المتوقعة بعد سنوات ، و أولها تغيرات جذرية في التركيبة الديموغرافية للأمم و الدول ..
فأوروبا العجـــوز أصلا ، وقبل أن تبدأ نازلة كورونا ، كان الباحثــون الديموغرافيون يتوقعون أنه بحلول عام 2050، سيكون عدد الأشخاص البالغة أعمارهم 60 عامًا أكبر من عدد الأطفال في العالم، وهو تحول فريد لم تشهده البشرية من قبل. وسيشكل عدد كبار السن في تلك السنة ربع سكان العالم على الأقل (2.1 مليار نسمة). وإذا سارت المعدلات كما هي، فمن المتوقع أن يبلغ عدد كبار السن نحو 3.2 مليارات نسمة عام 2100، أي نحو 28.5 في المائة من عدد سكان البشرية المتوقع أن يلامس 11.2 مليار .. هذا في حال سير أمور الطبيعة بالرتابة السابقة على نازلة كورونا ، اليوم وقد تدخلت السماء ، أو الطبيعة ، سمها كما شئت ، و إنتشر فايروس كوفيد 19 ، و بل و أخذ يطور من نفسه و يغير من تركيبته الجينية، يرى باحثون و أطبــاء أن النازلة ستقتل ما يربو على المليارين من البشر خلال الأعوام الخمسة القادمة بحسب المعدلات و الإحصائيات الحالية لعدد الموتى بسبب الفايروس خاصة في أوروبا و أمريكا ( حيث الأكثرية من الكهول ) بإختصــــار و ببســـاطة شديدة ، سيكـــون العالم في بدايات الثلاثينات مغلوب بالشباب و الأطفال و النساء .. فكيف سيكون تدبير الأمر في ظل سيطرة عقول شابة على كل مرافق الدنيــا ؟
كيف سيكون حال الدنيا في ظل حكم الولدان ، و مشورة النساء ؟
بالطبع يجب أن نأخذ بالحسبــان أيضاً ، الكيف ، إضافة للنوع ، بمعنى أن هؤلاء الشباب ينتمون إلى عهـــد ثقافي ، و لهم مفاهيـــم و سلوكيات و فكر مختلف تماما عن أجيال سابقة ..
و يجب أن نضع في الحسبان أيضاً أن معظم الثورات ، و الإنتفاضات ، على مر التاريخ كان يقودها الشباب ..
فالشباب أكثر نزقاُ و تهــوراً ، و أقل حكمة و أسرع قراراً ، و أقل صبــرا و أعنف فعلاُ .. و ليست ثورة ميجي الصناعية في اليابان التي إندلعت في عام 68 ببعيدة عنا ، ولا ثورة شباب الصين ما بين 1911 ، 1925 -1927 ، بجميع أشكالها و أهدافها ببعيدة أيضاً ، و ثورات الشرق الأوسط ، وما أحدثته من تغير سياسي و إقتصادي و عقائدي ، و على راسها الثورة الرائدة في مصر عام 1952 بقيادة شاب عمره 32 سنة و معه ضباط أحرار أعمارهم تراوح عمره .. و إمتداداتها من الجزائر إلى جميع أنحاء العالم العربي ، و ثورة الشباب الفلسطيني بعد ذلك .. و ثورة شباب عمال أوروبا الشرقية و ليخ فاليسا ، و إنتفاضة ما يسمى بالربيع العربي التي إستغلت الشباب إلى أن أدت إلى ما أدت إليه من دمــار و خراب عم الشرق الأوسط كله .. بل واستغلال الشباب في الحركات الدينية و ما أدت و تؤدي إليه من فظائع و كوراث و تلويث و تشويه للدين و القيم و الأخلاق جميعــاً ..
ولهذ التحــول و لهذ الأرقام دلالات، ستعير وجه الأرض ما بعد نازلة كورونا ، و خاصة في أوروبا ، فمن ناحية ستعمق أكثر الانقسامات بين أوروبا الغربية الأغنى والأقدر حاليًّا على مواجهة التحولات الديموغرافية من بلدان شرق أوروبا ووسطها. وفيما يتعلق بأزمة الأيدي العاملة، فدول غرب أوروبا أقدر على جذب العمالة، سواء كانت أوروبية أو غير أوروبية. لكن الدول الأوروبية الأفقر لا تملك إمكانيات كثيرة لجذب العمالة. من هنا يبدو المستقبل غائمًا لدول أوروبا ، حيث لا شباب فيها ، و من المعروف أنها بلاد كهلة ، و معظم مواطنيها من العجائز و الكهول الذين لن يكون لهم ذكر عما قليل ـ و سيأخذهم طـــوفــان كورونــا ، و سيضطرون إلى السقوط أو الإندثار أو إلى إستيراد ( شعب شاب ) ، ستؤثر هذه التحولات على ديناميات القوة الأوروبية فيما بين قواها المركزية: ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا. فشيخوخة المجتمع الألماني على سبيل المثــال لا الحصر قد تهدد التفوق الاقتصادي الألماني، ووضع برلين الرائد في التصنيع في القارة الأوروبية.
أما الولايات المتحدة ، فهي و بغير محاولة مني للتجني ، أو التعنصر / فهي أصلا دولة المهاجرين ، و دولة الأجناس ، بالتالي لن يتغير كثير في ( المفاهيم الضابطة ) للكيان ، إلا أن ( نوع ) المهاجرين الجدد سيحدد توجهاتها المستقبلية ..
و التنبؤ ( بشكل ) حكم الشباب الذي أعتقد أنه قادم لا محالة ، في زل المعطيات الحالية ، هو سيف ذو حدين ، فحكم الشابا يكون نعمة أحياناً كما حدث في كثير من بقاع الأرض و مع كثر من الشعوب و الأمم ، و قد يكون كارثيا أيضاً ،و حيث أن نوع وحجم السكان هو واحد من أهم العوامل المركزية في تحديد قوة الدولة عسكريًّا و سياسيا و إقتصاديا و ربما عقائدياً أيضاً . و الخطير في الأمر ، أمام كل هذه التغيرات أنه ومهما بلغ التطور في التكنولوجيا العسكرية، يظل إستخدام الجيش و القوة العسكرية حلاً يجنح إليه الشباب في حل الإشكالات ، و رعونة إستخدام القوة ربما ستكون ظاهرة في العقد القادم نتيجة لذلك ،و ربما سيواجه العالم تحديات أمنية جسيمة، خاصة مع موجة الهجرة و التغير الديمغرافي للدول و الشعوب ووصول عناصر شبابية راديكالية إلى منابر الحكم في عدد من العواصم الغربية.
هل جاءت نازلة كورونا ، بتدبير سماوي ، أو بتدبير الطبيعة ، كطوفان نوح لتبدأ دورة حياة جديدة؟ لجيل أو جيلين ، إلى أن تعلمهم الحياة و تصقل خبرتهم و تجربتهم ، ليكونوا عونا لأجيال قادمة بعدهم ، حيث يعيدون إلى الأرض الإستقرار ، و الهدوء ؟
أعتقد أن المقدمات و الشواهد توحي بذلك ..