في مؤلفه الشهير، المقدمة، أورد ابن خلدون رؤيته لحياة الدول، منذ القيام وحتى التفكك والاندثار.
وقد لخّص هذه الحياة بمرور الدولة بخمسة أطوارٍ متعاقبة. أولها، "الظفر بالبغية"، عندما يتّم الاستيلاء على المُلك وإقامة الدولة.
وثانيها، طور "الاستبداد على القوم" لتحقيق تثبيت المُلك وتمتين دعائم الدولة.
أما ثالثها، فهو طور "الفراغ والدّعة"، ويتمّ خلاله بناء عزّ ومجد المُلك، وتشهد خلاله الدولة أوج قوتها وتبلُغ أعلى درجات عظمتها التي تميزّها مظاهر الازدهار والعمران.
والطور الرابع هو "القنوع والمسالمة"، وفيه يتم الاكتفاء بتقليد السَلف، والاتكاء على ما تحقق من إنجازات سابقة، بتآكل ودونما إضافة.
وأخيراً، تصل الدولة إلى طورها الأخير، وهو "الإسراف والتبذير"، والذي تستهلك فيه ما تبقى لها من رصيد جرّاء انهماكها في تتبّع الملذات، ما يؤدي إلى وهَنها وهرمها، فتتهدم وتندثر.
هذه الدائرة المتكررة تؤدي، من وجهة نظر ابن خلدون، إلى تعاقب الدول على بعضها، دول تنشأ وأخرى تذوب، وفق مراحل أشبه بما يمّر بها الإنسان في الحياة، من المولد حتى الممات. ومع أنه ذَكر أن حياة الدولة تمتد لثلاثة أجيال، ورابعها يكون الأخير الهادم، إلا أن تقدُم سبل الحياة بعد ابن خلدون يمكنه أن يطيل من مدى استمرار الدولة لفترة تستمر أكثر مما توقع بكثير.
لقد اعتمد ابن خلدون في تفسيره لحياة الدول على مدى قوة تماسكها الداخلي؛ على مناعتها الذاتية التي تُكسبها القوة، وتمنحها الصلابة، وتُعطيها الدافعية.
هذه المناعة هي ما أطلق عليه تعبير "العصبية" (من العَصب وليس التعصب).
هذه العصبية لا تدّل فقط على مدى ترابط الأفراد مع بعضهم بروابط إرثية تدفعهم للتجمع مع بعضهم البعض، وإنما تدلل أيضاً - وهذا هو الأهم - على مدى ارتباطهم بغايةٍ يصبح تحقيقها الأساس المتين لتجمّعهم.
العصبية، إذاً، هي منظومة تصهر طاقات الأفراد مع بعضها، فتوحدها وتوجهها نحو تحقيق هدف مشترك وغاية عليا.
وعندما تكون العصبية متينة يتوحد القوم وتصبح الدولة قوية. وعندما ينفرط عِقد هذه العصبية وتبدأ بالارتخاء، تبدأ الدولة تضعف وتدخل طور الاضمحلال.
باختصار، منبع قوة الدولة داخلي ويتعلق بالنسيج الترابطي لأفرادها وارتباطهم بغاية موحدة. وكلما زادت متانة هذا النسيج تصاعدت قوة الدولة وحافظت على استمراريتها وبقائها. وبالمقابل، عندما يضعف هذا النسيج تتهاوى دعائم الدولة وتبدأ مسار انحدارها.
***
تتربع الولايات المتحدة الأميركية على قمة النظام الدولي أحادي القطبية في عالمنا المعاصر حالياً.
هي أقوى قوة عسكرية على وجه الأرض، تمتلك مخزوناً هائلاً من السلاح النووي، إلى جانب ترسانة أسلحة تقليدية ضخمة لا يضاهيها مثيل لدولة أخرى.
تجوب حاملات طائراتها وأساطيلها محيطات وبحار العالم، ولها قواعد عسكرية منتشرة في مختلف أرجاء اليابسة. كما وهي أقوى دولة اقتصادياً في عالم اليوم، فربع اقتصاد العالم بأسره أميركي.
وهي رائدة في مجال الابتكارات التكنولوجية، وفي سيطرتها المالية، وقدراتها العلمية. ولذلك هي تتمتع بامتلاك مجموعة متكاملة من قوى استحواذية كبرى تجعل منها القوة الرئيسة العظمى التي لا تضاهيها دولة أخرى الآن.
ولكن كل هذا الاستحواذ، وما ينتج عنه من مؤشرات باهرة، لا يعني أن هذه الدولة العظمى في مأمن على استمرارية مكانتها في مستقبل الأيام.
فمكانتها المتقدمة على غيرها ليست حصينة أو محصنة، بل هي تتآكل بصورة متسارعة، ما ينبئُ بدنوّ تهاويها وقرب تنحّيها عن مكانتها المتفردة في النظام الدولي الحالي.
في هذا السياق يجب الانتباه إلى ضرورة عدم الالتباس حول الأسباب الكامنة وراء ذلك. فتنافسية الصين الصاعدة اقتصادياً، أو جموح روسيا العسكري، أو بزوغ قوى كبرى جديدة متحفّزة للعب دور أكبر على الصعيد الدولي، ليست هي الأسباب التي ستؤدي إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة، بل قد تكون هي المؤشرات الدالة على هذا التراجع الكامن خلفه سبب جوهري آخر.
هذا السبب الجوهري هو ما تعانيه أميركا من خلل داخلي متفاقم سيقوّض لها مكانتها المتفردة، وسَيودي بتربعها على قمة الهرمية الدولية.
فهي تعاني منذ فترة من ضعف "عصبية" ابن خلدون، ما أدى إلى انهيارات متعاقبة في ركائز نسيجها الاجتماعي - السياسي. وهذه الانهيارات تُقلّص مناعتها الذاتية، وتضعفها داخلياً، وتكشفها خارجياً.
لم يكن وصول دونالد ترامب هو المسّبب لكل ما تشهده أميركا من تراجعات الآن، بل قد يكون النتيجة الحتمية لها.
فعصبية أميركا بدأت بالتحلل قبل وصوله لسدّة الرئاسة بأعوام، إن لم يكن بعقود. ولكن من المؤكد أن طريقته الفجّة والاستفزازية في الحكم، والتي تنّم عن مكامن استعلائية عنصرية، قد ساهمت برفع الغطاء والكشف عن المستور من هذا التحلل.
أميركا غارقة الآن في انقسام اجتماعي، رأس حربته عرقيّ المظهر، ولكنه يفوق ذلك بالتمحوُر حول تقسيم الثروة بين القلّة القليلة ممن يملكون، وكثرةٍ ممن لا يملكون، من جهة. ومن جهة أخرى، بين فئة تحمل فكراً انغلاقياً، عنصرياً، متعصباً، وأخرى ذات توجهات ليبرالية، تسامحية، وانفتاحية.
هذا الانقسام الاجتماعي أصبح حاداً واستقطابياً، يشطر أميركا إلى قسمين متضادين متصارعين.
وفوق هذا الانشطار آخر؛ سياسيّ يُقسّم البلد إلى جمهوريين وديمقراطيين، وهو انقسام حاد يحيل أعمال الحكم والحكومة إلى مواجهة دائمة مليئة بالإعاقات والعراقيل.
لقد فقدت الولايات المتحدة بوصلتها الموجِهة، ما أضاع منها غاية الوجود، وأفقدها الأمل والعمل لتحقيق الهدف المرتجى.
بفقدان "العصبية"، أي القوة التماسكية الداخلية والمنارة الموجهة للجهد الجمعي الأميركي، بدأت أميركا تئن تحت وطأة ضغوطها الداخلية، كما بدأ يظهر للعالم ما تعاني منه من تشققات وتصدعات.
وما المحاولات اليائسة البائسة التي يقوم بها ترامب لاستعادة التقاط الأنفاس خارجياً، وفرض استمرارية الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية، سوى انعكاس لحالة الفزع التي وصلت لها تلك البلاد.
كما يقولون: لقد غادر القطار المحطة. وما تشهده مدن أميركية كبرى هذه الأيام من مظاهر احتجاجية وأعمال عنف متدحرجة لهو دليل ساطع على ما آل إليه الحال الأميركي الآن: تجويف داخلي وخواء، لا يمكن إلا أن يُنذر بانهيار.
***
قد يكون من الضروري، والمُجدي أيضاً، البدء بالتفريق بين مفهومي "القوة" و"المنَعة".
فمن الممكن أن يكون قصد ابن خلدون من "العصبية" هو "المنَعة"، وليس "القوة". فالقوة هي قدرة ظاهرة ذات مقومات كميّة، بينما المنَعة هي قدرة كامنة ذات مقومات نوعية.
يمكن من خلال تكديس المقومات الكميّة أن تتم مراكمة القوة، ولكن القوة دون منَعة لن تحقق الكثير. وهذا هو حال أميركا الآن: قوة هائلة، ومنَعة متداعية.
والريح لا تُسقط، بالعادة، سوى الأشجار المُسوّسة، حتى وإن كانت باسقة.