وضع «الآباء المؤسسون» الدستور الأميركي في نهايات القرن الثامن عشر وفي أذهانهم تجارب أوروبا التي جاءوا منها: حروب دينية، وحروب طائفية ومذهبية استمرت عقوداً وقروناً ووحشيات بلا حدود. لذلك؛ أُبقيت الطوائف بلا ذكر في الدستور، واكتفي بذكر الله تعالى. غير أن الدستور نفسه ضمن حرية الفكر الديني وممارسة شعائره.
بهذا المعنى تميزت الدولة الحديثة عن سواها في دول الغرب، أي في «العالم المسيحي». فالكاثوليك كان مرجعهم الفاتيكان، والأرثوذكس مرجعهم قيصر روسيا، والإنجيليون أسقف كانتربري في بريطانيا. ولا يزال الوضع على ما هو عليه، مع بعض الاختلافات.
كان منظراً غريباً جداً أن يدخل الرئيس ترمب إلى الكنيسة المجاورة للبيت الأبيض ويخرج منها رافعاً نسخة من الإنجيل في وجه المتظاهرين. والمنظر الأكثر غرابة كان ظهور جو بايدن وزوجته في كنيسة إلى جانب صليب ضخم من الذهب.
عملان منافيان للدستور في حين أميركا تحترق بنار الفوضى والغرائز. وإذ يخرق المرشحان هذا العرف وسط الحريق الكبير، إنما يخرقان «المقدس» الوحيد في المفهوم الأميركي للعمل السياسي والوطني. واضح طبعاً أن كلا الرجلين أراد إثارة مشاعر المؤيدين أو الذين لم يحسموا قرارهم بعد. لكن كليهما تجاوز بذلك الأسلحة المقبولة في المعارك الانتخابية. ويذكرني الأمر بنكتة أرجنتينية تقول إن الفرق بين «رقصة التانغو والمصارعة الحرة، هو أن بعض الحركات ممنوعة في المصارعة الحرة».
في المشهد الأميركي المتفلّت ثلاثة تماديات مقلقة لصورة الدولة الكبرى: الأول، تمادي الشرطي الأبيض في الإصرار العمد على الجريمة التافهة: قتل بائس يروّج ورقة 20 دولاراً مزيفة. التمادي الثاني، استغلال بشاعة الجريمة من قبل مجموعة القوى الفوضوية لنشر الذعر والفوضى ومحاربة النظام. الثالث تمادي ترمب في هاجس المرشح مهمة الرئيس.
لا يمكن لرئيس بلد أن يكون طرفاً في نزاع وطني ولحظة خطيرة. هذا شأن الدول الصغرى والفاشلة والمرتهنة السيادة والقرار الوطني. أما صورة الاهتزاز في دولة مثل أميركا، فتؤدّي إلى اختلال في النظام العالمي، خصوصاً وهي تمر في لحظات حرجة مع الكبار الآخرين، الصين وروسيا.
مأزق أدّى إلى مأزق أعقد. وشرارة أدَّت إلى حريق. وفي حالة مشابهة، كان جورج بوش الأب قد لجأ إلى «الحرس الوطني». أما استخدام الجيش فوق الأراضي الأميركية وفي صراع داخلي، فهو باب مفتوح على المزيد من المخاوف التي بدأت تطاول صلابة الزاوية الأميركية.