شاركت اليوم في جنازة أحد رموز النضال الفلسطيني ومن أوائل المعتقلين الفلسطينين وأحد أبرز قادة السجون محمد لطفي"ابو لطفي" الذي أعتقل بتاريخ 1968/4/28 أثناء دخوله فلسطين بدورية فدائية من الاردن لتنفيذ عملية عسكرية، حيث إلتقى في السجن مع القادة الكِبار، عبد الحميد القدسي ومحمود بكر حجازي وعبد الله سكافي وأبو علي شاهين واحمد رشيد وعبد القادر أبو الفحم وعبد الرحيم العبوشي وتوفيق زكارنه و وليم نصار والقائمة تطول.
التقيت أخي محمد لطفي "ابو لطفي" في إحدى المناسبات وكان مريضا، سألته: طمني عن صحتك قال لي: الحمد لله وإسترسل مُبتسما وقال، هل تعلم أني لغاية الان منحني الله ثلاثون عاما زيادة على عمري، إبتسمت وقلت له: كيف؟
فسرد لي تفاصيل العملية التي دخل بها إلى الأرض المحتلة في العام 1968، و التي دخلوا بها عبر النهر و وصلوا جبال أريحا وقرروا الاستقرار بين جبالها الرملية بسبب شروق الشمس وعدم إمكانية التقدم أثناء النهار، إلا أن قوات الإحتلال تتبعت الأثر ولاحقتهم وإشتبكت مع المجموعة وسقط منهم شهداء وعاد إثنين إلى الاردن وتمت إصابته بكل أنحاء جسمه ولا زالت بعض الشظايا في جسمه حتى الان، وتأكد جنود الاحتلال أنه فارق الحياة ولم يكتشفوا أنه على قيد الحياة إلا بعد وصول سيارات الإسعاف لجنودهم، ومن هنا يقول لي بعد ذلك إعتبر أي يوم أعيشه انه إضافة من الله لعمري الذي من المفروض انه إنتهى بذلك اليوم.
ابو لطفي لم يكن رجلاً عادياً، بل قائداً مبدعاً خلاقاً، تعرف ذلك مجرد أن تجلس معه، كل من عاش معه قال عنه لا يمكن ان تجلس معه جلسة تنظيمية إلا وتخرج بمهمة تنظيمية عملية تنفذها، فعندما كان في السجن وفي البدايات وضع نظاماً مع القادة الكِبار يحكم المعتقلين من حيث أعداد الكادر التنظيمي حتى وصلوا لمرحلة الإلتزام الحديدي فأصبحت بعض السجون كما وصفها جيش الإحتلال دولة فلسطينية مستقلة بإنضباط كامل وفيها أطر تنظيمية من لجنة مركزية ومجلس وثوري ولجان عمل ولجان مع الفصائل وأمن وخدمات وتعليم وثقافة، حيث إختاره القادة العِظام كأول موجه عام في سجون الإحتلال وأعطي الرمز المختصر ( م . ع ) وهذا الرمز السري الذي يعرفه المعتقلين أنه الموجه العام للسجون.
ابو لطفي مع إخوانه في المعتقلات حولوا السجون الإسرائيلية من قبور لحمية إلى مدارس وجامعات تُعِد الكادر والقادة حيث بدأوا هذه المرحلة من سجن "بيت ليد"، وكل سجين كان يتم نقله الى السجون الأخرى يقوم بعمل الهيكليات وتدريس الأدبيات التي تحقق الإلتزام الكامل والشامل بقرارات مركزية تصدر من قيادة المعتقلين ليس فقط لمواجهة إدارة السجن بل لقيادة العمل التنظيمي من داخل السجون من خلال أدوات التواصل مع الخارج بواسطة إرسال الرسائل عبر المعتقلين الذين يخرجوا من السجن أو بواسطة الزوار من الأقارب وفي بعض الأحيان نجحوا في تجنيد بعض السجانين، وفي تلك الفترة أو بالأحرى بعد عامين خاضوا الإضراب الشهير عام 1970 الذي سقط فيه شهيداً القائد عبد القادر ابو الفحم من قطاع غزة.
لم يكتفي ابو لطفي وزملاءه بإعداد المعتقلين تنظيمياً بل شمل ذلك الثقافة العامة واللغات حيث أتقن ابو لطفي اللغة العبرية واللغة الانجليزية واللغة الفرنسية واطلاع على التجارب الثورية في كل أنحاء العالم ودراسة النظريات الفكرية المعاصرة حيث كان لهم الفضل في تعزيز الثورة وخلق الكادر القائد، مجرد خروجه من السجن يخلق ثورة في قرية او مخيم او مدينه، كيف لا وهم من قادوا انتفاضة عام 1987.
أرسلني رفيقه في السجن عمي ابو صالح زكارنه في العام 1989 لزيارة ابو لطفي في الاردن للتعرف عليه ومساعدتي في الدراسة في جامعة اليرموك في الاردن حيث وجدت عنده القائد رمضان البطة رحمه الله، وعندما جلست معهم إحتفلوا بي وكأني إبناً لهم وقالوا لي كل ما تطلب مُجاب وبالفعل شعرت أن عمي ابو صالح موجود هناك، ويومها سردوا لي قصة لن أنساها عن عمي ابو صالح وجعلتني أفخر بها ما حييت، حيث قال لي ابو لطفي انت عمك "منديلا" فلسطين كان قدوة ومحرك للأسرى وعمك كان عمره يزيد عن الستين وهولاء يمنحهم المعتقلين تصريحاً بعدم المشاركة في الإضراب، لكن عمك رفض ذلك وأصر على المشاركة في الإضراب وقال هل تقبلوا مِن الأطفال الأسرى أن يجوعون وأنا آكل!!!! وهذا الإضراب تم في شهر 8 عام 1980 وإستمر لمدة 13 يوم وبعد اليوم العاشر داخ ابو صالح وفقد الوعي بسبب كبر سنه وهزالة جسمه و وقع على الارض شبه ميت، عندها طلبنا الاسعاف وحضر السجان و وضعوه على الحمالة لنقله للمشفى وأثناء الضجة والصراخ ان ابو صالح شهيداً صحي وهو على الحمالة ونظر للأسرى وقَلب نفسه عن الحمالة قائلا: إياكم أن تنقلوني للمشفى أنا لا أموت إلا بينكم ولن أقبل أن أنهي إضرابي إلا معكم، هنا عَلت الهتافات من المعتقلين وبهذا الموقف من كبير السن ابو صالح شحن المعتقلين ومنحهم الصمود حتى نجح الإضراب في تحقيق أهدافه.
اليوم في جنازة ابو لطفي رأيت رفاقه من القادة العمالقة أتوا من جنين حتى الخليل وكل واحد يسرد قصة للبطل الشهيد ابو لطفي، تجعلنا مصرين أن نحافظ على عهدهم ورسالتهم وأن نكون كما كانوا حتى نحقق اهدافهم، فمن يملك هذا التاريخ المشرف لأمثال ابو لطفي يدرك أن النصر صبر ساعة وأن مدرستهم ستبقى نوراً ونبراساً للأجيال القادمة حتى تحرير فلسطين كل فلسطين، وكل الأشبال قالوها اليوم في جنازة ابو لطفي العهد هو العهد والقسم هو القسم أن تستمر الثورة حتى النصر بإذن الله.