على مدار أربعة مقالات تحت عنوان «ما العمل؟» حاولت أن أُبيّن أهمية العامل الذاتي الفلسطيني في مواجهة الأخطار التي تمثلها الخطة الأميركية (صفقة القرن)، وأهمية هذا العامل في استنهاض الحالة الوطنية، وإعادة توضيح وتعريف هذا الدور من خلال تطبيع الحالة الوطنية، وتحديد دور ومكانة السلطة الوطنية، وعلاقة السلطة بالمنظمة ودور المنظمة في مجمل هذه المعادلة.
وفي نفس الإطار، قلت، إن الانقسام هو أكبر اختراق استراتيجي لدولة الاحتلال، وأكبر خطر مباشر على مستقبل وجودنا وكفاحنا الوطني، لما مثله وما يمكن أن يمثله على وحدة وشرعية التمثيل، وما لهذه الشرعية والوحدانية من علاقة عضوية مباشرة بالحفاظ على الحقوق الوطنية والمشروع الوطني.
حاولت، أيضاً أن أُعرّج على محاولات خلق بدائل وأجسام «جديدة» للمنظمة وللسلطة، أيضاً في مراحل لاحقة ليست بعيدة بالضرورة، سواء من خلال تكريس قطاع غزة ككيان «منفصل» عن الجسد الوطني في الضفة بما فيها القدس، و»اندراج» حكام القطاع في مسار «خاص» يكرس هذا الانفصال، و»يساهم» بدوره في تشتيت الكيانية الوطنية التي تمثل وتحمي هذه الحقوق، لكي يعاد «تعريفها» من جديد وفق الرؤية الأميركية الإسرائيلية.
كما حاولت أن أُبيّن أن هذا التشتيت سيشمل بالإضافة إلى العمل الإسرائيلي الأميركي الدؤوب لفصل القطاع خلق «أجسام» حمائلية وعشائرية وقبلية وجهوية، مدعومة من القوى الاجتماعية والسياسية التي بقيت على مدار أكثر من خمسين سنة من الاحتلال تلعب في ملعب هذا الاحتلال، وتحت عباءته ومظلته المفضوحة، تحت ستار «الدين»، وتحت ستار «العادات والتقاليد والقيم»، وتحت غطاء الدفاع عنها والانتصار لها.
وقلنا، أيضاً، إن عدم التنبّه السريع لهذه الأخطار، والتقاء هذه الأخطار مع بعضها البعض في لحظة سياسية تقترب كثيراً من الواقع القائم سيكون هو الدمار الأكبر على كامل مستقبلنا الوطني.
المراهنة على إنهاء الانقسام فشلت فشلاً ذريعاً لأننا لا نريد بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الانقلاب أن نفهم ما كان يمثله الانقلاب، وما يمثله في الواقع، اليوم، وما سيمثله في المستقبل في إطار الخطة الأميركية الإسرائيلية لتصفية الحقوق الوطنية.
على كل حال، لا يكفي، ولم يعد يكفي أن يقول البعض منا، إنه متنبّه لهذا الخطر، لأن الأمور باتت مكشوفة، ولم تعد تحتمل الكثير من التلاعب بالألفاظ والشعارات وإصدار الأحكام والبيانات.
معظم الذين كانوا يعتقدون أن لدينا مشروعاً «للمقاومة» في قطاع غزة تراجعوا الآن، وسلموا أن هذا المشروع أصبح خلفنا، وأن كل ما بات ينطوي عليه هذا المشروع هو «تثبيت» حكم حركة حماس للقطاع، وأن المشروع تحول في الواقع القائم إلى مشروع سلطة.
والغالبية الساحقة من هؤلاء الذين كانوا يراهنون على ذلك المشروع كمشروع للمقاومة باتوا على قناعة (جديدة)، أن بقاء هذا المشروع، منفصلاً عن الجسد الوطني، ومتحكماً بالقطاع، وموازياً على طريق أن يتحول إلى بديل عن المنظمة والسلطة الوطنية هو فرصته الوحيدة للبقاء. ولهذا فقد رأينا إحجام حركة حماس عن التوقيع على وثيقة موسكو حول وحدانية وشرعية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، وما يعكسه هذا التمثيل من حقوق وأهداف وطنية.
ولهذا بالذات، رأينا كيف أنه جرت محاولات محمومة في الخارج لعقد مؤتمرات في الشتات تهدف تحديداً إلى الدخول على خط التمثيل. ثم رأينا كيف أن كل اليمين من كل أنواع اليمين لم يتوقف أبداً أمام مرور الدولارات القطرية إلى حركة حماس، وكيف أن نتنياهو قد دافع عن ذلك بكل حميّة وهمّة غير مسبوقة.
ورأينا بأمّ أعيننا «مأساة» الردّ على اغتيال القائد «الجهادي» أبو العطا، وقرأنا وشاهدنا الأحاديث المعلنة والفاضحة عن «الصواريخ الخيانية»، رداً على الصواريخ «العبثية»، واستمعنا إلى إسماعيل هنية حول «اختطاف» المنظمة من على منبر غير فلسطيني، بل ومن على منبر يعادي المنظمة أكثر بكثير من معاداته لأميركا وإسرائيل.
ثم جاء أخيراً من يتبرع بالحديث عن «فوائد» التنسيق الأمني بين «حماس» وإسرائيل، على «العكس»! تماماً من التنسيق الذي أنهته القيادة الفلسطينية بعد إعلان «التحلّل» من الاتفاقيات والتفاهمات مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، ويا للمفارقة!
إن تهرُّب حركة حماس لم يعد يحتاج إلى دليل، وكل ما تطرحه «لإنهاء» الانقسام هو مجرّد إعاقات ومبررات من أجل قطع الطريق على أي شكلٍ من أشكال إنهاء الانقسام.
وكل إنهاء للانقسام يُنهي دورها في «التحكُّم» المطلق بالقطاع هو مرفوض جملةً وتفصيلاً، وكل مراهنة على ذلك باتت مضحكة.
حركة حماس تنتظر دورها وحصتها في «الترتيبات» القادمة، وهي لن تتوانى عن «فتح» معركة صواريخ جديدة تحت شعار تحرير كامل فلسطين، من النهر إلى البحر دفعةً واحدة، بهدف «تأكيد» موقعها في خارطة هذه الترتيبات.
لا حلّ مع الانقسام قبل أن يُعاد للبرنامج الكفاحي اعتباره الكامل، وقبل أن يُعاد للنظام السياسي الفلسطيني وهجه وديمقراطيته، وقبل أن يتحول هذا النظام ببنيته وهياكله ومؤسساته إلى نموذج وطني ديمقراطي كفاحي، يُزاوج بين حُسن الأداء والإدارة وبين تجنيد طاقات الشعب في مواجهة الاحتلال، وتجنيد كل طاقات الحركة الوطنية الموحدة في عمل سياسي ديمقراطي شعبي جادّ ومثابر ومتجدّد.
لا حل مع الانقسام إلا بسحب أي شرعية مهما كانت، وتحت أي غطاء كان عن الانقسام، وخطر الانقسام، واستخدام الانقسام في استهدافات الخطة الأميركية الإسرائيلية.
خرجت حركة حماس من دائرة الاستهداف الإسرائيلي المباشر، وهي رضيت لنفسها هذا الخروج، إن لم نقل إنها عملت وسَعَت له بكل الوسائل والطرق.
والحقيقة أن حركة الجهاد الإسلامي تعرف هذه الحقائق، كما تعرفها جيداً الجبهتان الشعبية والديمقراطية.
الأمور على الأرض تجاوزت مرحلة الشكوك، ووصلت المرحلة إلى تخوم اليقين التام.
حركة الإخوان المسلمين هي التي تقود هذا التوجه، والقيادة الفلسطينية تعرف دور تركيا وقطر المباشر في كل هذا المسار.
حركة الجهاد والجبهتان تنتظران المبادرة من القيادة الفلسطينية الشرعية، والقيادة الشرعية تراهن على انسحاب الجهات الثلاث من هذا الدور الخطير، دون أن تقدم على مبادرات ملموسة ومباشرة.
والمشكلة الأكبر أن «فتح» لا تتقدم الصفوف لنسف هذه المعادلة الخطرة.
لهذا كله نحن في عزّ وصميم المراوحة وانتظار المجهول.
هذا لن يؤدي إلى أي مجابهة مع الأخطار المحدقة، بل إنها الوصفة الأكيدة لنجاح المخطط المرسوم للتصفية.
سحبُ الغطاء عن «الانقسام» سيعزز حتماً من قدرة مئات وربما آلاف الكوادر من حركة حماس لإجبارها على تغيير هذا المسار، لكن هذا لن يتم أبداً قبل تعافي الحالة الوطنية.
ولذلك الكرة ما زالت في ملعب الكلّ الوطني.