نُقل عن بن غوريون أنه حين قيل له «أنت لست خبيراً في الاقتصاد والثقافة والعلوم، وأنت ما أنت في حياة إسرائيل فما السر؟».
أجاب: أنا خبير في الخبراء. أي أنه يعرف من ينتقي لمساعدته في تحقيق الأهداف الكبرى والمعقدة.
لا أجزم بصحة القول، فما يُنقل عن الأموات غالباً أكثر بكثير مما قالوا، وإذا صح ما نُسب إليه تكون قد مرت عليه عقود طويلة.
هذا وضع أمامي وبإلحاح حالة نتنياهو «الخبير» الذي دخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية كصاحب أطول فترة رئيس حكومة في تاريخ إسرائيل، وأقوى رجل عرفته إسرائيل في تحمل الصدمات والتغلب عليها والخروج من المآزق، في دولة أُطيح فيها برئيس وزراء لمجرد اكتشاف حساب له بالدولار في أحد البنوك من دون أن يبلغ عنه، وفي ذات الدولة التي أُطيح فيها برئيس وزراء لقبول هدية متواضعة بحجم تذكرة سفر، قياساً إلى الهدايا العملاقة التي حصل عليها نتنياهو وبطلب منه.
نتنياهو خبير متفوق ليس في الخبراء وإنما في أمر آخر يبدو الأهم في إسرائيل والعالم، وعنوانه اكتشاف أو اختراع الممرات المضمونة التي يسلكها كي يصل إلى هدفه الأول والأخير «البقاء في سدة الحكم».
والممرات التي برع نتنياهو في اكتشافها أو اختراعها ليست مقتصرة على الخريطة القيادية للحياة الداخلية في إسرائيل، وهي بالمناسبة في غاية التعقيد وسرعة التحولات والانقلابات، وإنما على المستوى الدولي، ولندخل إلى بعض الأمثلة.
حين أطبقت قضايا الفساد على عنق نتنياهو وبدا كما لو أن إفلاته منها يبدو مستحيلاً، حصل المتهم على أهم دعم دولي تجاوز حدود اللياقة، خلال الحملة الانتخابية، فألقى ترمب بكل ثقله وراءه بما في ذلك عمل كل ما لم يكن ليُعمل سابقاً من أجل ملء سجله بالإنجازات الكبرى، وكذلك فعل القطب الكوني المقابل بوتين الذي لم يبقَ عليه إلا أن يوجه نداءً للروس في إسرائيل بالتصويت له بعد أن قدم له هدايا في وقت مناسب لإنجاحه.
ترمب قدم ما قدم بفعل نجاح نتنياهو في جعل دعمه وتبنيه بمثابة دجاجة انتخابية تبيض ذهباً، وبوتين قدم ما قدم للحفاظ على التفاهمات التي أبرمها معه بشأن العمل في سوريا وفق قاعدة لا لزوم لتجربة غيره.
وإذا كانت الممرات الخارجية مهمة في أمر سعي نتنياهو إلى تحقيق مبتغاه الأول والأخير، فإن الممرات التي فتحها في إسرائيل كانت الحاسمة في بقائه وحقن أرصدته بمزيد من الدعم أهمها وأشهرها تفكيك جبهة المنافس الأول وصاحب الفرصة الكبرى لإزاحته بيني غانتس، الذي رضي من الغنيمة بالإياب، فوضع التاج على رأس نتنياهو مقابل شراكة في الحكومة مع احتمال أن ينتقل التاج إلى رأسه بعد سنة ونصف.
كثيرون عدّوا رهان غانتس ساذجاً، ذلك أن جعبة نتنياهو مليئة بالحيل التي يمكن أن يفاجئ شريكه بها، كانتخابات جديدة يعرف غانتس أنه لن يحصل فيها على ما يؤهله لأن يكون ليس شريكاً بالمناصفة بل ربما ليس شريكاً على الإطلاق.
في أمر البقاء على رأس الحكومة في إسرائيل أظهر نتنياهو خبرة متفردة، وها هو يجرّب خبرته في مجال آخر، هو الضم وإلغاء احتمال ولادة دولة فلسطينية ولو شكلية.
الممر الذي شقه في هذا الأمر هو تسريب تكتيك الضم المتدرج الذي يبدأ بـ10% من الأراضي المصنفة «C» في عمق الضفة الغربية وتأجيل ضم الغور وكل المناطق المبيّنة في خريطة ترمب، وبعد أن يفعل ذلك سوف يطلب من الفلسطينيين التفاوض على ما يبقى فإن قبلوا فلا بأس وإن لم يقبلوا، وهذا هو المؤكد، فسوف ينفذ الجزء الثاني من الضم ويحمّل المسؤولية للفلسطينيين الذين رفضوا التفاوض، ثم يدير الأسطوانة إياها التي تقول إن الفلسطينيين لا يعرفون سوى كلمة «لا» وليست لديهم خبرة إلا في إضاعة الفرص! ولن يعدم مروجين لهذه المقولة بل ومعتنقين لها لتبرير عدم القدرة على معاقبة إسرائيل جراء مخالفتها الصارخة للقانون الدولي.
هذا هو نتنياهو وهذه هي ممراته المكتشفة والمخترعة، تلك الممرات التي وفّرت له نجاحات حاسمة في أمر البقاء، ويراهن على أن توفر له الدخول إلى موسوعة «غينيس» أيضاً كأول رئيس وزراء يقلب ميزان الشرعية الدولية وقوانينها لمصلحة شرعيته وقوانينه الخاصة.
في إسرائيل يلقبه أنصاره بالساحر، وفي عالمنا العربي يبدو أننا لم نعثر بعد له على لقب مع أننا ملوك اللغة والتسميات.