ما يسمى «بالضم»، هو لحظة فاصلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ارتبط تاريخياً برؤية المؤسسة الإسرائيلية لحل هذا الصراع من طرف واحد وبالاستناد لميزان قوى عسكري واقتصادي وسياسي محلي وإقليمي ودولي. ورغم أن الضم اقترن بتاريخ 1 تموز 2020 إلا انه يعود الى تموز عام 1967 عبر المشروع الذي قدمه الوزير الإسرائيلي إيغال آلون بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 67. وكان آلون قد انطلق من قرار 242 الذي نص على «حق دولة إسرائيل في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها «، متجاوزاً جملة أخرى تقول: لا يحق لأي دولة ضم أراضي الغير بالقوة والحرب. منذ ذلك الوقت عملت مؤسسات الاحتلال الأمنية والسياسية على صنع الوقائع وترجمة المشروع على الأرض وصولا الى لحظة الاكتمال الراهنة.
دراسات وتقارير ووثائق عديدة عرضت الفعل الإسرائيلي على الأرض من زاوية السيطرة على الموارد وإضافة مستوطنين وسيطرة أمنية محكمة، وفي الجهة الأخرى من الفعل الإسرائيلي جرى استهداف المواطنين الفلسطينيين عبر أعمال تطهير وكبح النمو السكاني والعمراني والتطور الاقتصادي، بمعنى كبح نمو تشكيلة اقتصادية اجتماعية فلسطينية قابلة للارتقاء وممارسة حق تقرير المصير. ما حدث على الأرض بناء مشروع سيطرة وتفكيك مشروع التحرر بصورة منهجية.
يُفهم من ذلك، أننا أصبحنا أمام قصة نجاح استعمارية، في مقابل قصة فشل التحرر الفلسطيني. كان السؤال الجدير بالنقاش في كل المراحل السابقة وراهناً، لماذا نجح المستعمرون ولماذا أخفق السكان الأصليون؟ وظيفة السؤال والإجابات المتعددة عليه هي عدم التسليم بالهزيمة الفلسطينية والسعي الحثيث والجدي للخروج منها. لهذا السبب يكتسب الرد الفلسطيني على إعلان الضم او عدم إعلانه -لطالما بقي قائما على الأرض- أهمية كبيرة.
نعيش حالة من التشاؤم المعلن وغير المعلن، وحالة من السلبية التي تكتفي باستعراض السلب القائم والتاريخي، بمعزل عن نقده وتقديم بديله الإيجابي. ونعيش حالة أقل من التفاؤل مع شروع بمقاومة الضم. يملك المتشائمون ألف سبب وسبب لدعم تشاؤمهم على مختلف المستويات الدولية والعربية والفلسطينية. ويملك المتفائلون اسباباً وجيهة لدعم تفاؤلهم. فلم يكن من باب الصدفة ان رفض الضم بما هو توسع ونهب استعماري، يلتقي في هذه اللحظة التاريخية مع الاحتجاجات العالمية الكبيرة ضد العنصرية، ومع رفض ومقاومة شعوب العالم للظاهرة الترامبية المتوحشة اقتصادياً وسياسياً، ومع التضامن الإنساني العابر للقارات والحدود الداخلية والخارجية في مواجهة وباء كورونا. أصبحت شعوب العالم بصدد إعادة بناء النظام العالمي بهدف قابل للتحقيق هو مغادرة حالة التوحش وإسقاط رموزها. عندما تلتقي قضية الشعب الفلسطيني بما هي قضية تحرر وتقرير مصير مع مقاومة التوحش على صعيد كوني، فهذا يضع في رصيدنا عناصر قوة سياسية ومعنوية مهمة ومؤثرة، بخلاف دولة المستوطنين التي تستقوي بالتوحش ورموزه وبالاستبداد ورموزه وبالنظام الدولي المسيطر عليه من ترامب، والذي لا يحترم القانون وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. فهذا يضع دولة الاحتلال الإسرائيلي كجزء من النظام الدولي المراد تغييره. هذا الاصطفاف العالمي يوفر قاعدة انطلاق، لكنه لا يكفي لإفشال الضم.
من يتابع ردود وقراءات نخب سياسية وفكرية فلسطينية حول الضم وما بعده سيجد القليل من الاستجابات في الاتجاه الصحيح، وسيجد غلبة للسلب.
د. صائب عريقات قال في مقابلة مع فضائية إسرائيلية : إذا أقدم نتنياهو على الضم فإن السلطة ستدمر، وسيكون نتنياهو مسؤولاً عن جمع القمامة وعن كل شيء»!!. يفهم من ذلك انه يريد إخافة الإسرائيليين انطلاقاً من مفهومهم لدور السلطة، وكان المطلوب تقديم عناصر القوة الفلسطينية التي تجعل الاسرائيليين يفكرون بالتراجع. والأهم هو تقديم الموقف الفلسطيني الذي يساهم في التماسك والثقة. قد تنهار وظائف السلطة بالمفهوم الاسرائيلي، وما يهم هو وظائف السلطة بالمفهوم الفلسطيني التي تدعم تحرره في سياق صراع البقاء.
والبيان الصادر عن اجتماع قيادتي حركتي حماس والجهاد الإسلامي، «أكد الدعم الكامل للتحركات الشعبية لحماية الأرض ومواجهة الضم، وناشد الجماهير الى أوسع مشاركة في الفعاليات الجماهيرية والاشتباك الميداني مع الاحتلال، البيان يوحي بأن الحركتين تؤيدان مواجهة جماهيرية في الضفة، ولم يتحدث عن استئناف المسيرات في قطاع غزة كشكل للاحتجاج على الضم، ولم يدع الى اجتماع اللجنة المعنية بتنظيم المسيرات، في الوقت الذي أعلنت فيه الحركتان عن جهوزية المقاومة للتصدي لاعتداءات الاحتلال. ويلاحظ هنا ان المقاومة لن ترد على الضم بإطلاق النار والدخول في مواجهة عسكرية - لحسن حظ المواطنين في قطاع غزة -، وانما سترد على اي اعتداء إسرائيلي فقط لا غير. مع ان المتحدث العسكري باسم كتائب القسام ابو عبيدة اعلن في حديث مسجل، «إن قرار الضم الإسرائيلي هو بمثابة إعلان حرب، وسنجعل العدو يعض أصابع الندم على هذا القرار الآثم». كما يبدو أن الحركتين لا تقدمان سياسة بديلة أخرى، تتجاوز حدود رد الفعل مع انهما تتبنيان استراتيجية مناقضة لاستراتيجية التفاوض التي تمخض عنها اتفاق اوسلو. وكان من المنطقي ان تتقدم استراتيجية المقاومة على استراتيجية التفاوض التي أخفقت أيما إخفاق. كما أن البيان المشترك يصلح لكل زمان ومكان، ولم يقدم خطاً بديلاً ولا سياسة بديلة، فقط أعاد تكرار مواقف عامة. السؤال هل تستمر التهدئة بعد الضم. والتهدئة بالمفهوم الإسرائيلي المعلن هي هي صيغة مهزلة لأوسلو.
استوقفتني كتابات الصديق عبد المجيد حمدان، الذي عبر عن خشيته من ردود مغامرة ومرتجلة يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني او أجزاء منه، وقد شد الأنظار الى تجارب سابقة دفع الشعب ثمنها ولم تخضع للنقد والمراجعة، ما قد يسمح الارتجال بتكرارها. البديل الذي يقدمه حمدان في نقاشاته هو تعزيز مناعة الشعب وبناء عناصر قوته الداخلية واختيار أساليب مقاومة وردود مدروسة يكون لها صدى وتلحق الخسائر بالمحتلين المستعمرين ولا تعيد إنتاج نكبات جديدة للشعب المنكوب. ما أود قوله إن الردود السياسية لا تزال تنتمي الى بالونات الاختبار. وتتحاشى الإجابة على الأسئلة الكبيرة والمسارات البديلة لمسار أوسلو.