يدعي البعض بأن أبراج الخلوي هي سبب جائحة كورونا، ويقول آخرون بأن الفيروس هو مجرد خيال، وبعض رؤساء الدول لديهم نظرياتهم الخاصة. ومن ناحيتها، حذرت منظمة الصحة العالمية من «وباء المعلومات».
حتى قبل أن تنهي دول العالم إجراءاتها ضد فيروس كورونا وقبل إنشاء اللجان لتحليل ما حدث ولا يزال يحدث، أخذت تظهر بعض نتائج الجائحة الخطيرة في المستويات النفسية-الاجتماعية-السياسية والاقتصادية. الفشل برز على السطح، والارتباك سيد الموقف بين المواطنين والسلطات، والخوف من المجهول يخيم في كل مكان. كما أن أمورا أخرى تحدث وراء الكواليس تؤثر على الفوضى الحالية، بل تكثفها؛ من قبيل نظريات المؤامرة والتضليل والدعاية.
بمعنى من المعاني، الادعاء بأن الفيروس عبارة عن سلاح بيولوجي أو اختراع يهدف إلى إعادة هندسة السكان، أسهل بكثير للفهم من التعامل مع فيروس غير معروف. وهكذا، كل تهمة مستجدة تضفي على المأساة درجة معينة من الأهمية، حتى لو كانت تلك التهمة وهمية أو ظلامية. الأمثلة لا حصر لها، ابتداء من «الأدوية» السرية مثل المُبَيِّضات الكلورية المخففة (فتوى دونالد ترامب مثلا)، مروراً باللقاحات الطبيعية مثل تناول الموز، وانتهاء بإغلاق جميع الأجهزة الإلكترونية. كل ما سبق وغيره يوفر «الحماية» من الخطر، طالما أنه غير مطلوب إثبات فعالية تلك الفتاوى.
خلال الفترة الماضية وحتى اللحظة، وجدنا العديدين ممن اشتروا هذه النظريات، وآخرين روجوا لها. الاعتقاد بأن شخصاً ما سرب معلومات «محظورة» يمنح الأخير شعوراً باليقين والثقة بالنفس. تَشارُك هذه «المعلومات» قد يمنح الناس شيئاً صعب المنال بعد أسابيع طويلة من الإغلاق والموت: الشعور بالسيطرة.
ينجذب العديد من الناس إلى فكرة «المؤامرة» لأنها «تدغدغ» دوافع نفسية معينة مهمة للناس، حيث أن مفهوم المؤامرة يمتلك كل العناصر التي قد تجعل الناس يؤمنون بها. في الواقع، يفسر علماء النفس بأن الشائعات والمزاعم الوهمية ينشرها أناس كثيرون، بما في ذلك أناس عاديون، تسببت الأزمة في ترويض حسهم النقدي. وبالطبع، ليس كل من يروج لنظرية المؤامرة ساذج، بل إن منشأ بعض نظريات المؤامرة يعود إلى أصحاب المصالح تحديدا، سواء أكانوا محتالين عاديين، أم أطرافا مختلفة تسعى جاهدة لتحقيق مكاسب سياسية، أو حتى حكومات تحاول إخفاء إخفاقاتها. وليس المقصود هنا فقط رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب الذي دأب جهارا نهارا على بث الأكاذيب الهادفة إلى إبعاد الشبهات التي تحوم حوله؛ وبخاصة أنه تفنن في إصدار الفتاوى «العلمية والطبية» المثيرة للسخرية، من قبيل التوصية بتناول «عقاقير» خطيرة، بل قاتلة لم تثبت فعاليتها العلاجية.
مهما كان المصدر والدافع، فإن هذه الرسائل الكاذبة -والطريقة السهلة لإشاعتها في أيامنا هذه- قد تدفع بعض الناس إلى تناول العقارات المنزلية الخطرة، بل القاتلة من ناحية، والاستهتار بالإرشادات الخاصة بالتباعد الاجتماعي من ناحية أخرى؛ هذا إلى جانب زيادة مؤشر القلق. ورغم أن التاريخ شهد جوائح كبيرة، لكن لم يسبق أن تفشت جائحة في وقت يستطيع الناس التواصل مع بعضهم البعض بالطريقة السهلة والسريعة التي يتواصلون بها اليوم، أو توفرت لديهم السهولة الحالية في الوصول إلى المعلومات.

«وباء المعلومات»
تضخمت المعلومات الكاذبة وانعدمت الثقة العامة إلى حد أن منظمة الصحة العالمية حذرت من «وباء المعلومات» (infodemia)؛ إذ يمكننا مشاهدة كمٍ هائلٍ من الأقاويل التي تغمر الفضاءَين الاجتماعي والافتراضي المحيطين بنا، لدرجة أصبح القلق «فيروسا» نشعر به جميعاً بشكل أو بآخر.
إن وباء المعلومات هذا ليس بالضرورة سلبياً، وبخاصة عندما يكون الجمهور متعطشاً لمزيد من المعلومات حول ما يحدث، وربما لمعلومة جديدة مشجعة أو نصائح للتعامل مع الموقف. المشكلة أن هناك من يستغل الوضع عن قصد لنشر قصص مختلفة- على الرغم من كونها كاذبة. ولعل أفضل مثال على ذلك دراسة جرت في الولايات المتحدة مؤخراً، ووجدت بأن الناس يميلون نحو تشارك المعلومة الكاذبة حول فيروس كورونا والتي قد تكون أحياناً خطيرة، أكثر من ميلهم نحو تصديق «المعلومة» ذاتها.
تعد وسائل التواصل الاجتماعي أرضية خصبة لهكذا نظريات ومزاعم. على سبيل المثال، العديد من «البوستات» والمشاركات التي تم تداولها عبر الإنستغرام على نطاق واسع، زعمت بأن «بيل غيتس» هندس فيروس كورونا كي تستفيد شركات تصنيع الأدوية من هذا الوضع. وهناك المزيد من الأمثلة؛ ففي ولاية ألاباما نُشِرَت عبر الفيسبوك مزاعم بأن قوى ظلامية أمرت بإخفاء مرضى الكورونا في المروحيات ونقلهم إلى تلك الولاية الأميركية. كما انتشرت في أميركا اللاتينية شائعات تفتقر إلى أي أساس منطقي، مفادها أن الفيروس تم هندسته بهدف نشر فيروس نقص المناعة البشرية (HIV). وكلما بدت المزاعم المسوقة «محظورة» و»سرية» أصبحت مرغوبة أكثر لدى مروجيها، إذ أنها تمنحهم شعورا بامتلاكهم ميزة مختلفة عن الآخرين، وبأنهم أكثر ثقة وأماناً.
بعض من يؤمنون بنظريات المؤامرة، يعتقدون بأنهم يتمتعون بالسلطة من خلال «المعلومات» التي بحوزتهم، غير المتاحة للآخرين.
إيطاليا، التي أصبحت رمزاً لتفشي الجائحة في أوروبا، كانت أيضاً موطناً لتفريخ الشائعات المختلفة. على سبيل المثال، مواطن إيطالي كان في طوكيو جلب معه مقطع فيديو يزعم بأنه يمكن علاج الفيروس، إلا أن السلطات الإيطالية «تخفي الحقيقة». شائعة إيطالية أخرى مفادها أن سبب مرض «كوفيد 19» هو بكتيري وليس «فيروسياً» (فيروس كورونا)، حيث تزعم الشائعة بأن بعض الأطباء الإيطاليين تحدوا منظمة الصحة العالمية وشرَّحوا جثث بعض المتوفين من المصابين بالكورونا (علما أن منظمة الصحة العالمية لم تمنع عمليات التشريح)، فتبين لهم أن سبب المرض والوفاة هو بكتيري و»جلطات رئوية». بالطبع تم تفنيد هذه الشائعة علميا، وبخاصة أن سبب مرض «كوفيد 19» هو فيروس تاجي (من النوع بيتا) ولديه جينوم محدد في المختبرات العالمية، وبناء عليه تُجرى الأبحاث لإنتاج اللقاح. والأهم من ذلك أن «صورة شخصية» للفيروس تم التقاطها بواسطة المجهر الإلكتروني.
مقاطع فيديو أخرى تم تداولها على موقع يوتيوب، زعمت بأن الجائحة مجرد خيال تم تصميمها للسيطرة على السكان. أحياناً لا يجادل أحد في حقيقة وجود الجائحة، لكن يتم طرح تفسيرات بديلة لمصدرها، كالشبكة الخليوية المتقدمة 5G؛ إذ عممت هذه البدعة في موقع YouTube، وسجلت 1.9 مليون مشاهدة. ولم يمض وقت طويل حتى شرع الكثيرون في بريطانيا بإتلاف الهوائيات الخليوية.

ابتداع المزاعم الكاذبة
إلى جانب الناس العاديين، هناك أيضاً عدد غير قليل من المتنفذين الحكوميين الذين قفزوا على عربة المؤامرة، خوفا من ردود الفعل الشعبية الحادة ضدهم، غداة الأزمة، إذ عمد بعض رؤساء الدول إلى محاولة صرف نظر الرأي العام عن التهم الموجهة ضدهم، فابتدعوا المزاعم الكاذبة. وقد برز الرئيس الأميركي ترامب في مقدمة أولئك الرؤساء. إذ منذ أن أصابت الجائحة الولايات المتحدة، وحتى اللحظة، «أوصى» ترامب مراراً وتكراراً بتناول «أدوية» لم يثبت طبيا فعاليتها، متجاهلاً تحذيرات العلماء حول خطورة «نصائحه» التي تسببت في ارتفاع حالات التسمم والوفيات الأميركية جراء تناول مساحيق التنظيف والتعقيم التي «نصح» بها ترامب! (حسبما أكد تقرير المراكز الأميركية لمراقبة الأمراض والوقاية منها/CDC). بل إن ترامب ألقى باللوم على خصومه السياسيين المزعومين في سعيهم للاستفادة من «وضع كورونا» لإيذائه. وفي وقت لاحق، عندما علم أن الفرق الطبية في مشافي نيويورك تفتقر بشدة إلى معدات الحماية، ألمح إلى أن تلك المشافي كانت تسرق الأقنعة!
بل ذهب أنصار ترامب إلى أبعد من ذلك؛ فزعم السناتور الجمهوري توم كوتون (من أركنساس) وآخرون بأن الفيروس عبارة عن تهجين اصطناعي تم إنشاؤه في مختبر صيني ينتج أسلحة بيولوجية. بينما زعمت وسائل الإعلام التي تدعم ترامب بأن عدد القتلى (أكثر من ألف يوميا حتى أواخر أيار) قد تم تضخيمه من قبل منافسي الأخير.
كما برزت هذه الظاهرة في البلدان التي أدى غياب الثقة بالأنظمة السياسية فيها إلى صعود الحركات الشعبوية؛ ومن أبرز رموز هذه الحركات «ماتيو سلافيني» زعيم حزب «ليغا» الإيطالي المعارض للهجرة؛ إذ كتب على تويتر بأن الصين خلقت الفيروسات المؤذية للرئتين من الخفافيش والفئران. مثال آخر هو الرئيس البرازيلي بولسونارو الذي روج مراراً لعلاجات مضادة للفيروسات غير مثبتة علمياً، وزعم بأن الوباء أقل خطورة مما يقول الخبراء. وفيما يتعلق بتمجيد العلاجات غير المثبتة، نذكر على سبيل المثال دولتي تركمانستان وطاجيكستان، حيث أثنى القادة هناك على علاجات زائفة وأبلغوا المواطنين بضرورة مواصلة العمل. لكن لم تخلُ الدول الغربية أيضاً من القيادات التي سلكت طريقا مشابها.
تكاثر الرسائل الشعبوية البديلة، وبخاصة تلك التي تقلل من خطورة الجائحة، يشكل خطراً آخر يتمثل في حجب المعلومات الصحيحة. هذه الرسائل المضللة لم تتسبب فقط في تفريخ نظريات المؤامرة من قبل الأفراد، بل أيضاً تعميق الشعور بأن البيانات والمصادر الرسمية لا يمكن الاعتماد عليها، وترسيخ الاعتقاد المتزايد بأن الناس يجب أن يكتشفوا الحقيقة بأنفسهم. ونتيجة لذلك، ارتفعت أصوات «خبراء الكراسي» الذين غالبا ما يثيرون الانتباه من خلال المزاعم الشعبوية التي يقدمونها، والتي كثيرا ما تكون معاكسة للمعطيات العلمية المثبتة.
في الواقع، نظريات «المؤامرات الطبية» أخذت تتفاقم على مر السنين قبل جائحة كورونا. لكن الآن، بعد أن دخل العالم في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فقد تتعاظم تلك النظريات الشعبوية لتصبح أكثر خطورة. موجة «مؤامرات» الكورونا تحمل في طياتها خطورة مدمرة كامنة على المجتمع، لا تقل خطورة عن فيروس كورونا ذاته.