بعد مرور قرن على تأسيس الكيان اللبناني، وأربع سنوات على انتخاب ميشال عون، أعاد رأس الكنيسة المارونية اللبنانية الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الاعتبار إلى أهمية خيار الحياد الذي يحتاجه لبنان في ربع الساعة الأخير قبل سقوط الدولة والكيان، وخسارة لبنان لموقعه، والمسيحيين لحجمهم، والمارونية لدورها.
في وقت يسير لبنان بسرعة قياسية نحو هاوية مالية واقتصادية لم يشهد لها مثيل، تصر السلطة اللبنانية على تجاهل مطالبات المجتمع الدولي بضرورة إجراء الإصلاحات اللازمة كشرط لمد يد العون للبنان. والتزام سياسة النأي بالنفس «الحياد»، الذي يحمل عناوين مختلفة لمضمون واحد، وهو إخراج لبنان من صراعات المنطقة: سورية، اليمن، العراق، الخليج…، وليس تخليه عن موجبات الصراع العربي الإسرائيلي وحق لبنان في الدفاع عن نفسه.
وأصبح الوعي اللبناني، لا الواقع اللبناني يتقدم نحو الحياد بينما يخسر لبنان النموذج الاقتصادي للحياد السويسري. تخيلوا سويسرا الشرق «لبنان» بلا قطاع مصرفي!!
وزير الخارجية الفرنسي، جان لودريان، الذي زار لبنان خلال اليومين الماضيين، حمل رسالتين الى اللبنانيين، الأولى: ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم، والثانية، نشر مظلة دولية لصرخة بكركي الأخيرة والتي طالبت بالحياد وفك أسر الشرعية، بعدما لم يبق للبنان «حيط عمار» مع أي دول عربية يمكن أن يستند إليه في أزمته الحالية، وبعد أن استفاقت الكنيسة المارونية، واستفاق مسيحيو لبنان على حجم الكارثة السياسية والاقتصادية والمالية التي أوصل إليها التفاهم بين الجنرال عون و»حزب الله».
ويقول مطلعون، إن رئيس الدبلوماسية الفرنسية، قد لمح في لقائه مع المسؤولين اللبنانيين في بيروت، إلى ليونة أميركية حيال لبنان مشروطة بتنفيذ الإصلاحات بشكل جذري ومتوازٍ وترسيم الحدود البحرية.
ومن ضمن سلة الإصلاحات، حمل لودريان معه تأكيداً على ضرورة إنجاز إصلاح السلطة القضائية بقانون واضح، وإصلاح الكهرباء ومن ضمنها العودة النهائية عن معمل سلعاتا، وتشكيل الهيئات الناظمة في الكهرباء والاتصالات والطيران المدني، وترشيق القطاع المصرفي، إلى غيرها من الإصلاحات الجمركية لوقف تهريب البضائع على المعابر البرية والبحرية والجوية. وأرفق الإصلاحات بأهمية إنجاز الترسيم البحري بما يرسخ الاستقرار على الحدود الجنوبية ويحسن معه فرص بدء الشركات الأجنبية في استثماراتها النفطية، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على تعزيز أصول لبنان وضمان قدرته المالية في عملية إيفاء القروض والديون. على أن يحصل لبنان في تطبيق سلة الشروط على بدء تقديم التسهيلات الدولية لإعادة النهوض الاقتصادي وانطلاق تنفيذ المشاريع ضمن مؤتمر «سيدر» معطوفة على برنامج استثنائي من صندوق النقد الدولي.
ولكن يبقى لموقف وكلام الكاردينال بشارة الراعي، نصيب الأسد من زيارة لورديان، وهو الذي توصل أخيرا إلى أن لبنان، اليوم، متروك من دول الخليج، والدول الأوروبية والولايات المتحدة، «بسبب هيمنة (حزب الله)، لذلك لا خلاص للبنان إلا بحياده». ويبدو ان طرح الحياد من المقر الصيفي للبطريركية المارونية يحمل في طياته عتباً على العماد عون جرّاء المضي بخيارات سياسية جردت لبنان من عناصر قوّته وباتت تهدد وجوده كدولة، وجوهر طرح الحياد هو عودة «حزب الله» إلى الداخل اللبناني وعدم الاستمرار في خوض الحروب الخارجيّة.
وعلى كل حال، لم يعد الحياد نبيذا سياسيا معتقا يخفيه مسيحيو لبنان في خوابي أقبية الخوف التاريخي، بل هو، اليوم، وبعد مائة عام من الحياد المكتوم، يتراقص أيضا في هواجس معظم نخب المسلمين اللبنانيين الراغبة بالعيش بكرامة.
وتاريخيا، فإن معظم محاولات تحييد لبنان، سقط أمام الواقع المرير لأسباب عدة أبرزها عامل السلاح، وقوى الأمر الواقع بلباسها العسكري والمدني، والأحزاب والطوائف المرتبطة بالخارج ارتباطا عضويا او نفعيا او مذهبيا، يجعل هذا الخارج يملي عليها الأوامر المغلّفة بالمصالح الوطنية، بل إنها حولته، إلى ساحة صراعات وتصفية حسابات، أي «حروب الآخرين على أرض لبنان» كما كان يسميها غسان تويني.
وبالعودة الى تاريخ لبنان، نجد انّه ومنذ نيله استقلاله كان الحياد مطروحاً. حيث اتّفق الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصّلح على شعار «لا للشرق ولا للغرب»، في ظل نظام طائفيّ ترتبط فيه كلّ طائفة بدولةٍ أجنبية وتُطالب فيه كلّ طائفة بتحصين حقوقها.
وفي عهد فؤاد شهاب، توصل في اللقاء الشهير بينه وبين الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي جرى في خيمة نُصبت على الحدود اللبنانية السورية، إلى تفاهم مع القاهرة، على فكرة التماهي اللبناني مع السياسة الخارجية لمصر بما لا يضر مصالح الدولة اللبنانية، مقابل عدم تدخل القاهرة في شؤون لبنان الداخلية. ساعدت هذه المعادلة أو الصفقة لبنان على تجاوز الاضطرابات السياسية التي جرت بين مكوناته الحزبية والطائفية، المنقسمة ما بين المدى الناصري و«حلف بغداد».
ويعتبر البعض أنّ مصطلحي الشرق والغرب في يومنا هذا يُعنى بهما إيران وامتدادها شرقاً والولايات المتّحدة الأميركيّة مع أوروبا غرباً.
كما أن لبنان التشاركي الذي لم يُنتج منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، إلا سلطة مأزومة، ودولة مفلسة، وبلدا مفتوحا على ساحات نزاع المنطقة، لم تعد تجدي معه، بحسب مرجعياته الميثاقية والروحية، سياسة الانتظار والحنكة وتدوير الزوايا. بعد جنوح «حزب الله» بسبب مشاريعه الأصولية، والتي تعتبر خطراً يهدد هوية لبنان، ويحجب عنه روحه، ويبرقع حريته بتيوقراطية دينية تساهم في تصدير أبنائه للهجرة.
لدرجة أن هناك من بات يطالب، إما بالحياد الكامل عن كل المشاريع الخارجية، وإما التقسيم الإداري الفدرالي، كنظام لفَض الاشتباك السياسي والثقافي بين بيئات ومكونات متباينة، هو السبيل لخلاص الجميع.
لكن الشيعية السياسية ترفض صرخة البطريرك التي نادت بالحياد، وترى فيها رضوخا سياسيا للمؤامرة الأميركية التي تستهدف سلاح «حزب الله»، عن طريق الأزمة الاقتصادية. أما حليفه العوني جبران باسيل فمحرج بين حليف يستمد منه الحياة «حزب الله»، وبين كنيسة تحاكي هواجس المسيحيين الوجودية.
ولكن لا يمكن فهم فلسفة جبران باسيل الإلغائية والعنصرية للحياد، بعد ربطه بأمور غير ممكنة التحقيق: حوار داخلي ومظلة دولية، وحل مشكلات مزمنة ذكر منها: انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة. ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة، وإلقاء تهم باطلة وعنصرية لا علاقة لها بالحياد، بأن النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، هم أحد أسباب المعمعة اللبنانية الحالية.
إن طلب البطريرك حياد لبنان سحب ورقة التوت المسيحية عن سلاح «حزب الله»، وأنهى مرحلة التغطية العونية لهذا السلاح، مقابل وصول الجنرال عون إلى قصر بعبدا. لأنها رئاسة أوقعت لبنان في أعمق عزلة عربية ودولية، إنها رئاسة قادت لبنان من وضع الدولة الفاشلة الى وضع الدولة المنهارة.
ولكن على أي حال، لا يظهر أي فريق سياسي في لبنان رغبة في الذهاب الى صدام مع «حزب الله». لكن مشهد الزيارات الى بكركي يربك الحزب، لعدم رغبته على الأرجح في استعادة مشهد او تجربة أشعلت الأرض تحت أقدام القوات العسكرية السورية في لبنان، بحيث تكون بكركي مجددا راعية لتحرك وطني واسع في ظل ظروف اقتصادية صعبة ومخاوف حقيقية التقى حولها أفرقاء من كل الطوائف.