كتبتُ في المقال السابق أن الحرب، والمقصود بها هي الحرب الإقليمية التي تشتمل على إيران وسورية ولبنان، وتقوم بها إسرائيل والولايات المتحدة ربما تكون «المخرج» الوحيد أمام رئيس الولايات المتحدة من أزمة السقوط في الانتخابات المزمع إقامتها في شهر تشرين الثاني من هذا العام، تماماً كما هي (الحرب) المخرج «المناسب» لنتنياهو، الذي يجد نفسه في أتون أزمة مستعصية من كل جانب.
بين المقال السابق واليوم ـ أي بفارق ثلاثة أيام فقط ـ تم تسجيل الوقائع التالية:
اختلفت لهجة الرئيس ترامب حيال الفيروس، وأصبح يقرّ بخطورته، ووصل الأمر إلى عودته إلى المؤتمرات الصحافية وارتداء الكمّامة في خطوةٍ يراها معظم المراقبين بأنها محاولة يائسة لاستعادة بعض ما خسره أمام جو بايدن في سباق الرئاسة الأميركية.
ليس هذا فقط، فقد ازدادت الهوّة بينه وبين مرشح الحزب الديمقراطي بصورة خطيرة قد لا تنفع معها كل الإجراءات والتراجعات والاستدارات إذا ما استمرت على ما هي عليه، أو حتى إذا بقيت عند الحدود الحالية.
أما في الفترة الفاصلة بين المقالين فقد ازداد وضع نتنياهو تأزُّماً، إن كان لجهة الخلافات الحادة داخل حكومة الرأس ونصف الرأس، أو كان لجهة تفاقم أزمة الجائحة والأرقام المرعبة التي وصلت إليها إسرائيل، ناهيكم طبعاً عن اتساع نطاق الاحتجاجات.
هنا يلاحظ أن شبح الانتخابات الجديدة يقترب من المشهد السياسي، وإمكانية «تعايش» هذه الحكومة أصبح صعباً للغاية في ظل استمرار الخلاف الحاد على موضوعات مفصلية مثل الموازنة و»الضمّ»، وغيرهما، إضافةً إلى تسريع جلسات المحاكمة والتي لن تعطي لنتنياهو أي فرصة للبقاء على رأس الحكومة.
«الليكود» يتراجع ويزداد وزن اليمين المتطرف نسبياً، كما يزداد وزن الوسط واليسار قليلاً فيما يتراجع حزب غانتس وتحافظ بقية القوى على وضعها كما كانت عليه طوال فترة الأزمة
ماذا نستنتج هنا؟
نستنتج بكل بساطة أن نتنياهو فقد القدرة على «إدارة» اللعبة داخلياً، وأن حاله لا يختلف عن حال الرئيس ترامب الذي يسابق الريح والزمن في آنٍ معاً.
وعليه فإن مخرج الحرب التي ستتحول حتماً إلى حرب إقليمية بات أكثر ترجيحاً، وأن اللجوء إلى هكذا مخرج أصبح في عداد الاحتمالات المرجّحة.
هذا هو التطور الأول.
التطور الثاني اللافت للانتباه هو ما جاء على لسان جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي السابق بأن على إسرائيل العمل على تأمين مصالحها الأمنية والقومية في الأشهر المقبلة، ووصف الأوقات القادمة بأنها الفترة المثالية لتحقيق هذه المصالح.. ونصح إسرائيل «بتنفيذ عملياتها ضد إيران قبل تشرين الثاني المقبل».
نعرف جميعاً أن بولتون يميني متطرف وأيديولوجي مثابر، ونعرف موقفه وموقعه من قضايا الحروب وندرك الأبعاد العملية للنصيحة التي أسداها لدولة الاحتلال.
التطور الثالث والذي مرت عليه وسائل الإعلام الإسرائيلية مرور الكرام كان زيارة رئيس أركان القوات الأميركية إلى إسرائيل، واجتماعه بكل من غانتس ورئيس الأركان الإسرائيلي ورئيس «الموساد» وشخصيات عسكرية وأمنية أخرى.
الكلمات القليلة حول هذه الزيارة كانت تقليدية وكأنّ الزيارة بروتوكولية معتادة.
الواقع أن هذه الزيارة ليست روتينية، وليست على جدول الأعمال، وقد جاءت بصورة مباغتة، كما أن اللافت فيها وبالرغم من طابعها المفاجئ أن تغطيتها كانت باهتة وهامشية، ما يثير الريبة والشك حول أهدافها وحول توقيتها وكذلك حول الأمور «الطارئة» التي استوجبتها.
لا يمكن أن تكون زيارة رئيس أركان القوات الأميركية مباغتة وخارج جدول الأعمال لو أن الأمر يتعلق فقط بالعلاقات التقليدية بين الجيشين، ولا يمكن لشخصية عسكرية أميركية على هذا المستوى أن تزور إسرائيل دون جدول أعمال مسبق، كما لا يمكن أن تكون زيارة مباغتة من هذا النوع وتستدعي الاجتماع مع كل الطاقم الإسرائيلي إلاّ إذا تعلق الأمر بمستجدات عسكرية وأمنية عاجلة لا تقبل التأجيل، أو تستدعي التحضير أو البدء به على جناح السرعة.
التطور الرابع هو إقدام الطائرات الحربية الأميركية على «مضايقة» طائرة مدنية إيرانية بصورة استفزازية لا تخلو من رسالةٍ أمنية أو عسكرية أرادت من خلالها الإدارة الأميركية إرسالها إلى إيران، وتتعلق ـ كما أرى ـ بأن هذه الإدارة تعرف ولديها معلومات معينة عن نقل تكنولوجيات دقيقة تتعلق بالوسائل الحربية على ما يبدو عليه الأمر.
هنا يمكن توقع أن الولايات المتحدة وإسرائيل تخشيان نقل هذه التكنولوجيا لأنها تتعلق بحربٍ قد لا تتعدى الأشهر القليلة القادمة.
أقصد أن هذا الاستفزاز لم يكن ليقع وبهذه الطريقة الفجّة لولا أن الأمر ينطوي على خطورةٍ خاصة، ولولا أن ثمة أسرارا تقف وراء هذا السلوك المتهوّر.
يُضاف إلى كل ذلك أن سبق الإعلان عن تفاهمات واتفاقات عسكرية بين سورية وإيران على أعلى المستويات، وبما يشمل كل أنواع الأسلحة، وبما يشبه الإعلان «غير الصاخب» عن تجديد لاتفاقيات دفاعية مشتركة، وبما يوحي أن الجانبين السوري والإيراني يستشعران الأخطار القادمة في الفترة القريبة القادمة.
أعود هنا إلى ما قاله جون بولتون لكي أخلص إلى النتيجة التي سأخلص إليها.
بولتون وصف الأوقات حتى تشرين الثاني القادم بأنها الأوقات (المثالية) للحرب.
في العادة، ومهما كان حجم انحياز بولتون إلى إسرائيل، ومهما كانت حماسته لها وللحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في هذه المنطقة وفي العالم كله، ومهما بدا متعطشاً لشن هذه الحروب إلاّ أن وصفه للمرحلة بأنها (مثالية) لشن الحرب ليس معتاداً ولا مطروقاً في سلوك مستشار الأمن القومي الأميركي حتى شهور قليلة ماضية.
هذه لغة غير معتادة للتصريحات الصحافية، وهي مفردات تقطر دماً في الواقع، ولا يجدر أن تقولها شخصية على هذه الدرجة من حيث المكانة والأهمية والمناصب التي شغلها.
يعرف الكثيرون عن بولتون شغفه بالحرب والقتل والإبادة، ويعرف الغرب ـ وليس نحن فقط ـ ذهنيته المتعجرفة، والمعادية للإنسانية، ونعرف أن أقواله في الغرف المغلقة تصل إلى ما هو أبعد من معاداة الإنسانية. لكن أن يصف المرحلة بالمثالية ويحاول أن يزيّن لإسرائيل إقدامها على الحرب بهذه الصفاقة فهذا يعني أحد أمرين: فإما أن قرار الحرب أصبح جاهزاً، وإما أن معلوماته تفيد بأن قرار الحرب مطروح على طاولة البحث.
أخلص في النهاية أن العقوبات على إيران والصعوبات الاقتصادية الهائلة أمام النظام الإيراني، و»تصدع» الحالة السورية، وخصوصاً بعد القوانين الأخيرة، وخصوصاً قوانين «قيصر» التجويعية لشعب بأكمله، والوضع المزري للاقتصاد اللبناني وغياب الأفق السياسي والمخرج السياسي من الأزمة اللبنانية.. ربما أن هذه العوامل مجتمعة قد كانت في عقل بولتون عندما انزلق للحديث عن مرحلة مثالية للحرب.
كل المؤشرات تفيد بأن تطورات دراماتيكية كبيرة فقط قد تجعلهم يعدلون عن هذه الحرب، أما إذا بقيت الأمور على ما هي عليه فالأمر يحتاج إلى معجزة.