صدى نيوز: يزداد منسوب التوتر يوما بعد يوم في شرق البحر الأبيض المتوسط، وسط مخاوف من انزلاق الوضع نحو اصطدام مباشر، لاسيما في ظل إصرار تركيا على فرض الأمر الواقع في المنطقة، من خلال المضي قدمًا في التنقيب عن الثروة النفطية، رغم اعتراض عدة دول مجاورة.
وإذا كانت هذه الخلافات قد تأججت على نحو ملحوظ في هذه المنطقة الحيوية من العالم، فإن النزاع في الأصل يعود إلى عقود أو حتى قرن، لكنه اكتسى زخمًا خلال الأعوام الأخيرة، من جراء اكتشاف آفاق واعدة للطاقة في شرق المتوسط.
ومنذ مدة تقاربُ عقدا من الزمن، كشفت هيئة المسح الجيولوجية الأميركية عن وجود إمكانيات مهمة جدا من النفط والغاز في شرق المتوسط، فشكل هذا الإعلان حافزا لدول المنطقة على الاستفادة، وانفتحت شهية الشركات الكبرى.
لكن عملية الاستفادة ليست مفتوحة على عواهنها، بل تتطلبُ أن تقوم كل دولة بتحديد المنطقة الاقتصادية الخاصة بها، حتى تنقب وتستفيد ضمن نطاق محدد، ووفق ما تسمح به مقتضيات القانون الدولي.
ومن أسباب الخلاف الحالي، أن دول هذه المنطقة لم تكن قد حددت المناطق الاقتصادية الخاصة بها من ذي قبل، وفي هذا الإطار، لأنها لم تكن على علم بما يختزنه باطن شرق المتوسط.
في هذا الصدد، سارعت قبرص إلى ترتيب مسألة الحدود، فتفاوضت مع مصر وإسرائيل من أجل رسم الحدود من جهتي الجنوب والشرق، أما الحدود المشتركة مع كل من سوريا ولبنان فلم يجر حسم أمرها بعد.
وفي المنحى نفسه، قامت جمهورية قبرص؛ وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي برسم الحدود من جهة الغرب، لكن تركيا أبدت معارضة شديدة لهذه الخطوة.
وتعارض أنقرة مساعي جمهورية قبرص إلى رسم حدودها البحرية من جهة الغرب، وتتمسكُ بذريعة أن شمال قبرص الذي تعرض لغزو تركي سنة 1974، من حقه أيضا أن يستفيد ويمد منطقته الاقتصادية أيضا.
وفي ظل هذا الخلاف، ترسم تركيا حدودا بحرية خاصة بها، على نحو يتقاطع مع النطاق الذي حددته جمهورية قبرص لنفسها، وهذا الأمر يفرز نزاعا حول مناطق مهمة في شرق الأوسط.
"حيل تركية"
لكن موقف تركيا ضعيف أيضا أمام اليونان، والسبب هو أن أثينا تبسط سيادتها على جزر تبعد بكيلومترات قليلة فقط عن البر التركي، ومن المعروف أن القانون الدولي يتيح للجزر أن تكون لها مناطق اقتصادية خاصة تصل إلى نحو مئتي ميل.
وكانت هذه الجزر تركية في الأصل، لكن جرى التنازل عنها من قبل تركيا لفائدة اليونان، خلال القرن الماضي، وفي سنة 1923 تحديدا، في إطار اتفاقية "لوزان" التي أعادت رسم حدود الدولة التركية.
ويرى متابعون أن تركيا تسعى إلى التنصل من هذه الاتفاقية وفرض الأمر الواقع في المنطقة، حتى وإن جرى ذلك على نحو "مارق"، لكن أنقرة تواجه تحذيرات أوروبية تصلُ إلى حد التلويح بفرض عقوبات.
الورقة الليبية
وفي نوفمبر 2019، حاولت تركيا أن تخلط الأوراق فأعلنت عما وصفته بـ"الاتفاق" مع حكومة فايز السراج في طرابلس، من أجل رسم الحدود البحرية بين البلدين في البحر الأبيض المتوسط، لكن هذه الخطوة قوبلت بالرفض من البرلمان التركي الذي أكد عدم شرعيتها.
وأدانت مصر المجاورة، الاتفاق الذي وقعته حكومة السراج، وقالت القاهرة إنه يشكل خرقا لاتفاق الصخيرات الذي كان يفترض فيه أن يمهد لخروج الفرقاء من الأزمة.
ورأت الخارجية المصرية، وقتئذ، أن اتفاق الصخيرات لا يخول حكومة السراج أن توقع اتفاقيات مماثلة، كما كما تمثيلها مختل بشكل كبير، لأنه لا يعبر عن كافة مناطق ليبيا.
وأثار هذا الاتفاق حفيظة دول أخرى انتقدت أطماع تركيا التي حاولت ووجدت ذريعة في الورقة الليبية، ثم عززت وجودها في البلاد من خلال إرسال المرتزقة المتشددين وتقديم الدعم العسكري.
فضلا عن ذلك، ترفض كل من اليونان وقبرص الحدود المزعومة بموجب اتفاق أنقرة وحكومة فايز السراج، لأن ما جرى رسمه ينال من منطقتيهما الاقتصاديتين.
وترى قبرص واليونان أن ضررا كبيرا سيلحق بهما من جراء اتفاقية السراج وأنقرة، نظرا إلى وجود مشروع مع إسرائيل يقضي بإنجاز خط غاز إسرائيلي، يسلك مسارا يبدأ من إسرائيل ثم يعبر قبرص قبل أن يصل إلى جزيرة كريت اليونانية، أي أنه يعبر النطاق الذي تزعم تركيا أنه ضمن الحدود البحرية المشتركة مع ليبيا.
وفي ظل تعنت أنقرة، تحاول دول أوروبية وغربية أن تنزع فتيل الأزمة، لكن مآل الأمور قد يتوقف على حزم الاتحاد الأوربي، أي ما إذا كان سيقفُ بصرامة إلى جانب الدولتين التي تشغلان عضويته أي قبرص واليونان، أم إنه سيبحث عن صيغة حل هادئة، نظرا إلى عضوية تركيا أيضا في حلف شمالي الأطلسي "الناتو".