انقشع الغبار عن موقعة انتخابات الرئاسة الأمريكية و ظهر الدخان الأبيض مبشراً برحيل ترامب و قدوم ساكنٍ جديدٍ للبيت الأبيض ، فهل رحلت السياسة الترامبية معه ، و ماذا سيتغير في سياسة بايدن الخارجية الموعودة . بايدن الذي شغل رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب لسنوات و نائب الرئيس لثمانية سنوات و سيناتور في مجلس النواب ل 36 سنة ، سنحاول تلمس ملامح سياسته المستقبلية ، و تقدير الموقف وفق علاقة الولايات المتحدة مع مختلف الأطراف .
مرت فترة حكم ترامب سنين عجاف على أغلب دول العالم فيما كانت دولة الاحتلال و بعض الخليجيين من المنتفعين القلائل ، لكن لا يمكن اختزال التغيرات التي ممكن أن تطرأ على السياسة الخارجية الامريكية عبر فرز الأطراف بين صديقٍ لترامب أو خصمٍ له ، و مقولة أن السياسة الأمريكية سياسة مؤسسات لا أفراد تظهر محدودية التغيرات الممكنة ،التي يمكن اختزالها في طريقة تظهير هذه السياسة في أغلب الأحيان ، حيث يمكن أن تتغير طريقة ترامب الوقحة إلى أسلوب أكثر ليونةً للوصول إلى هدف مطابق أو قريب و دعونا نتكلم حول المحاور التالية :
1- القضية الفلسطينية : لا شك أن السياسة الأمريكية ثابتة في انحيازها لدولة الاحتلال ، إلا أن ذلك لا ينفي أن السلطة الفلسطينية من أكثر المتحمسين لقدوم بايدن ، نظراً للخطوات الكثيرة التي قام بها ترامب ضد الفلسطينيين ، فلأي مدى يمكن للسلطة و للفلسطينيين أن يتفاءلوا ؟ 
لا شك أن المسلمات الأمريكية بالانحياز إلى دولة الاحتلال و أدوات الضغط المتنفذة في الولايات المتحدة ستمنع بايدن من القيام بخطواتٍ إلغائيةٍ فعليةٍ لما أقدم عليه ترامب من الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال او قرارات الضم ، لكن سيلجأ بايدن إلى إعطاء السلطة جوائز ترضية ، كإعادة فتح مكتب تمثيل المنظمة أو تخفيف الضغوط المالية و السياسية ، و ليس يقيناً أن يتضمن ذلك إلغاء إجراءات تحضير الدحلان للمرحلة القادمة . السلطة الفلسطينية من طرفها ستجد الفرصة مناسبة لمحاولةٍ يائسةٍ للبحث عن مساراتٍ سياسيةٍ ، و الحفاظ على مكاسب فئوية ، و ليس هناك أسهل من تجميد المصالحة مع حماس لتقديمه عربون صداقة .
2- دولة الاحتلال : لا شك أن ترامب و طاقمه و لا سيما كوشنر قدم لدولة الاحتلال ما لم يقدمه أي زعيم آخر بعد بلفور ، لكن لن تكون خسارة ترامب ذات أهميةٍ كبيرةٍ لدولة الاحتلال ، فترامب قدم كل ما يمكنه تقديمه ، و يمكن القول أن دوره انتهى ، و المصالح التي قدمها ترامب مصونةُ بشكل أو بآخر ، و التغيرات التي سيقدم عليها بايدن ستكون محدودة في شكليات علاقة أميركا مع السلطة و لن تمس مصالح دولة الاحتلال بشكل واضح .
و بعبارة أخرى فإن خاصية المبادرة في المشاريع الإسرائيلية هي من صلاحيات دولة الاحتلال ، رغم وجود هذا الداعم الخارجي أو ذاك .
و هنا تجدر الإشارة إلى أن أكثر ما يقلق دولة الاحتلال هو ميل بايدن إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ، فإلى أي حد سيفلح بايدن في استعمال خبرته في العلاقات الدولية لحل هذه المعضلة.
3- سوريا : يبدو أن بواكير التغيير في السياسة الأمريكية و الخليجية تجاه سوريا لم تنتظر انتهاء الانتخابات ، و لا يعد قدوم الوفد الأمريكي إلى سورية المؤشر الوحيد ، فالنظام الذي تمكن من تجاوز الأزمة إلى حد كبير أصبح أمراً واقعاً و على الأمريكي و حلفائه الخليجيين التعامل معه ، و فيما فتحت الأسواق الخليجية أبوابها للمنتجات الزراعية السورية ، تتسارع خطوات التبادل الدبلوماسي للخليج مع سوريا في نهاية غير رسمية للحصار الأمريكي فيما يتم الترتيب لعودة سوريا إلى الجامعة تحت غطاء معاداة تركيا . و الأسد الذي لم يتجاوب مع الوفد الأمريكي لإعطاء دفعة لترامب عبر ملف المفقودين ينتظر مرحلة ما بعد ترامب لترتيب أوضاع البلد بعد التفاهم الأخير مع الروس ، و في ظل الانسحاب المحتمل للجيش الأمريكي من سوريا .
4- إيران : رغم وعود بايدن الانتخابية بالعودة إلى الاتفاقات الدولية التي انسحب منها ترامب بما فيها الاتفاق النووي مع إيران ، إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة ، و بايدن الذي يرغب بعودة ما إلى الاتفاق ، سيحاول الوصول إليه ببعض المكاسب التي تقنع جمهوره ، و بطريقة لا تغضب المتعاطفين مع دولة الاحتلال و كذلك الخليجيين ، و سيلعب مجلس الشيوخ الذي لم يستطع الحزب الديمقراطي كسب الأغلبية فيه دوراً مثبطاً .
و هنا تجدر الإشارة إلى وجهة نظر الإيرانيين ، حيث يرون أن السياسة الأمريكية تقوم على مؤسسات لا أفراد و أنها مرتهنة إلى المصالح و المطامع ، و إن كان ثمة فرق بين ترامب و بايدن ، فعلى بايدن أن يثبت هذا الفرق لا أن يبنى عليه نظرياً . و يبدو أن الإيراني الذي مارس ضبط النفس إلى أبعد الحدود في الفترة السابقة ، يتنفس الصعداء لرحيل ترامب لكن ينتظر ما ستنجلي عليه مواقف الإدارة الجديدة ليبنى على الشيء مقتضاه ، معتبرين أن قدوم بايدن و ادعائه لمغايرة سياسته عن ترامب ، ستكون فرصةً لممارسة الضغط عليه و التمدد فيما يحاول هو إثبات ليونته ، مستغلين انتهاء عقوبات البرنامج الصاروخي و تمسك المجتمع الدولي بالاتفاق النووي.
5- تركيا : العلاقة التركية الأمريكية باتت مركبة في ظل تطوير تركيا علاقاتها مع روسيا و الصين و دول أخرى ، و بروز بوادر مشاريع تركية توسعية ، سواءاً جيوسياسية أو اقتصادية ، و رغم الاستثمار الوظيفي للولايات المتحدة في السلوك التركي و بواعث التصادم لديها مع الخليج أو إيران أو غيرها ، إلا أن أسئلة مهمة تطرح حول استمرارية هذا الدور الأمريكي و مدى تغول نفوذها في تركيا و رغبتها في التغيير .
و ربما يلعب التفاهم مع روسيا و الصين دوراً ما في إدارة علاقة الولايات المتحدة مع تركيا ، سواءاً داخل أو خارج تركيا ، و هل سيتسمر أردوغان في اللعب منفرداً مع الكبار أم سيجد نفسه مضطراً لدخول لعبة المحاور الأقليمية و الدولية ، سعياً لاستعادة المجد الغابر.
6- الخليج : يبدو أن الأنظمة الخليجية هي الخاسر الأكبر من سقوط ترامب ، خاصة و أن هذه الأنظمة باتت و وفق ثقافتها الأمريكية ترى أن الخطر الداهم يأتي من إيران . و قدوم بايدن الذي يرغب بترطيب الأجواء مع إيران إن لم يعد إلى الاتفاق ، يقلق أنظمة الخليج .و ستمارس ما استطاعت من الضغط المنسق مع دولة الاحتلال لعرقلة هذا التوجه . 
7- الاتحاد الأوروبي : شهدت فترة حكم ترامب جفاءاً واضحاً في العلاقة بين الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة ، و شواهد ذلك كثيرة ، و لا نبالغ اذا قلنا أن أوروبا - و لا سيما اليسار فيها - باتت أحد الرابحين من رحيل ترامب الذي جار كثيراً على العلاقة التاريخية المميزة مع الولايات المتحدة . 
عودة بايدن إلى الاتفاقيات الدولية سيلعب دوراً إيجابياً في تهدئة خواطر الأوربيين ، و لا سيما اتفاقية باريس المناخية و الإتفاق النووي مع إيران ، و ربما يحلم الأوربيون في عودة دفئ العلاقة مع الولايات المتحدة ، و إيجاد حلول في القضايا العالقة ، فإلى أي مدى سيتجاوب بايدن في القضايا الخلافية ، كأنبوب الغاز الروسي و فكرة الجيش الأوروبي و سحب الجيش الأمريكي من ألمانيا و أمور أخرى كادت تهز اجتماعات حلف الأطلسي ، و لا شك أن أغلب هذه القضايا محكومةُ بثوابتٍ أمريكيةٍ ، لكن لا بد أن يلعب أسلوب بايدن المرن دوراً مهماً .
هنا تجدر الإشارة إلى أن رحيل ترامب لا يعني رحيل الطريقة الترامبية ، و لا أقصد هنا وجودها في السياسة الأمريكية فهذا شأن داخلي لن نتطرق إليه في هذه المقالة ، لكن وجود ترامب في الحكم كان دافعاً مهماً لنمو التوجه اليميني الشعبوي في الأحزاب و السياسيين الأوربيين و تطورها ، و أقول هنا توجه و ليس أحزاب يمينية ، لأنه إلى جانب تقدم الأحزاب اليمينية الشعبوية في الانتخابات و استطلاعاتها بشكل لم يسبق له مثيل ، إلا أن الأخطر هو ميل العديد من الأحزاب التقليدية الأوروبية إلى تبني سياساتٍ و أفكارٍ يمينيةٍ شعبويةٍ لأسبابٍ عديدةٍ لا يتسع المقام لذكرها . فما مآل هذا التوجه بعد ترامب  ،أغلب الظن أنه لن يتغير ببساطة أو بمدى زمني محدود ، و على العكس أوجدت هذه الأحزاب آلياتٍ للاستثمار في هذا المجال و جذب شرائحٍ واسعةٍ من الجمهور ، و منها على سبيل المثال الإسلاموفوبيا و كراهية المهاجرين . و تحولت عناوين الحملات الانتخابية تبني القيم و تطوير الحياة الاجتماعية إلى استفزاز الانتماء المجتمعي و رفض الآخر ، و يبدو أن ترامب ترك خلفه في دول أوروبا شخصياتٍ تحمل فظاظته و تتبنى عقليته.
8- الصين : ذلك المارد القادم من قمقم الشرق ، كان و ما زال مبعث الخطر الأكبر للقطب الأمريكي في ظل التقدم الاقتصادي المستمر لهذا المارد ، حيث بات الاقتصاد الصيني الثاني في العالم كقيمةٍ ماليةٍ بعد الأمريكي ، فيما ينذر بتخطيه للاقتصاد الأمريكي خلال سنوات ، و انطلاقاً من استمرارية الإحساس الأمريكي بالخطر القادم ستستمر الحرب الاقتصادية ضد الطوفان الصيني لكن ستعود على الأرجح إلى الأساليب الناعمة التي كانت قبل ترامب و هذا الأسلوب المفضل للصين التي لا تميل للصدام المباشر ، لكن إلى أي حد سيصمد هذا الخيار في وجه التمدد الصيني عالمياً ، ليس فقط في الشراكة المزمعة مع إيران في وجه أميركا أو بوادر الوجود العسكري الصيني في إفريقيا و الشرق الأوسط . بل أيضا في الدخول الواسع لملاعب كانت تعد حكراً للأمريكي كالاقتصاد التركي نموذجاً ، ناهيك عن الشراكة مع روسيا.
لا شك أن ما ذقناه من مرارة السياسة الأمريكية و الأثمان التي دفعناها تجعلنا نقرأ التغيرات و نتساءل عن الاحتمالات و تأثيرها علينا . لكن المنطق السياسي السليم يقوم على قراءة الحدث و بناء آليات للتعامل معه و تحييد مخاطره و خلق فرص منه . و لا بد من القول أن مصيبتنا ذاتية قبل أن نلقي باللوم على ما و من حولنا . و لا بد من تلمس بوادر النهضة في داخلنا و ابتداع الفعل لا انتظاره .
دمتم بخير