لم تكن 24 ساعةً في اليوم، ولا 7 أيام في الأسبوع، ولا حتى حياةٌ واحدة، كافيةً لتستنفد فائض طاقةٍ لا تنضب، وحماس لا يخفُت، وشغف لا يذبُل لدى صائب عريقات.
بالنسبة لصائب فإن الحياة مهمات، وإن كان قام بصياغة الوصف الوظيفي لعمله ومهماته من خلال الممارسة، فقد كانت عناوينه الأساسية: الإيمان بالهدف، العمل دون توقف، الإجادة، والإدراك أن لديك مرجعيةً ينبغي أن تقدم تقريرَك إليها، وفي حالة صائب ومهماته الشائكة فإن المرجعية الأساسية كانت شعبه.
كان صائب عريقات يأخذ عمله على مَحمل الجد، وكان ينفذه بتفانٍ متناهٍ وتكريس كامل يصل إلى حد التماهي، ولذلك كان لديه جدول أعمال يومي مزدحم حيثما كان، سواء في الوطن أو في عواصم العالم، فكنتَ تجدُه عندما يزور واشنطن، مثلاً، يبدأ نهاره في ساعة مبكرة بلقاء تلفزيوني، ويتلوه بلقاءات لا تتوقف مع مسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، ومع أعضاء نافذين من مجلسَي الشيوخ والنواب في «الكابيتول هل»، ومع مراكز أبحاث ومجموعات ضغط، وكان يجد وقتاً لمحاضرة في جامعة وللقاءٍ مع أفراد من الجالية، وللقاء صحافي آخر. وقد تجده مساءً يُجري على الهاتف مقابلة مع إذاعة محلية في الدومينكان، وبالتأكيد فهو لا يبحث عن شهرة أو مجد أو أنصار في تلك الدولة النائية الصغيرة أو في غيرها، فقط كان يعتقد أن جوهر مهمته أن يوصل صوتَ فلسطين إلى كل مكان. وفي كل تلك اللقاءات كان يمكن تلمُّس أنه لا يتصرف بصورة آلية تحمل برودةَ ورتابة التكرار الوظيفي، بل إنه يتحدث في كل لقاء بنفس القوة والحماس والنبرة، وكأن ضوءاً سحرياً ساطعاً يغمره من بعيد ويفجر فيه طاقاتٍ استثنائيةً ويجذبه ويقوده إلى أبعد التخوم.
ولأنه قادم إلى العمل السياسي الرسمي من عالم الأكاديميا، فقد كان صائب حريصاً على إخضاع عمله لمقاييس الجودة العلمية باستقطاب كفاءات فلسطينية لدائرته، وباللجوء إلى الخبرات، وخاصةً القانونية، حيثما وُجدت لاستشارتها حول قضايا عديدة، وكان ممن كرَّسوا ثقافة التقرير الموثَّق المستند للمعلومة والتحليل والدراسة، بعيداً عن ثقافة التقرير الشفوي. وكان جاهزاً على الدوام، ففي حقيبة اليد التي لا تغادر يده (ولاحقاً حاسوبه الشخصي) كان يأتي لأي اجتماع مزوداً بما أعدَّه من تقارير عن المستجدات وبتحليل لأحداث طارئة، مستنداً لاتصالات شخصية مع اقتراحات لكيفية الرد. واعتاد أن يزوّد الأعضاء في اجتماعات الهيئات الفلسطينية بتقارير مفصلة عن أحداث فترة سبقت. ورغم علمه بأن البعض لم يكن يتعامل مع هذه التقارير بما تستحقه من اهتمام وعناية، فلم يتوقف عن تقديمها، فقد كان يعتبر أن هذا من أبسط واجبات مهمته.
ولذلك، كان صائب بالنسبة إلى الجميع الذاكرةَ الحية، والمرجعيةَ الموثوقة، والشاهدَ الحاضر، مع التشديد هنا على أنه كان من صُنّاع وصائغي البرنامج والموقف والخطاب السياسي. وكانت الطرفة السائدة أنك يمكن أن توقظه الساعةَ الثانيةَ صباحاً لتسأله عن بند معين في قرار دولي أو في اتفاق مع الإسرائيليين، فيبلغك، وهو يغالب النوم، برقم صفحة في ملحق معين ستجد فيها ما تبحث عنه، ثم يواصل نومه.
وكان صائب، الذي يحمل درجةَ الدكتوراه في موضوع حل النزاعات، يدرك أن موازين القوى على طاولة المفاوضات تختلف عن موازين القوى على الأرض. وكان يواجه مفاوضين إسرائيليين يتصرفون وكأنهم على ظهر دبابة، ويعتقدون أن التاريخ يبدأ من حيث توقفت آخرُ جرافة استيطانية في اليوم السابق، ويتوقف حيث تقف في تلك اللحظة قواتُ جيش الاحتلال. لذلك كان صائب يدافع بشراسة عن الرواية الفلسطينية مرتقياً إلى موقع التفوق الأخلاقي، مع تأكيد إمكانية تحقيق سلام تاريخي عادل. وكان لا يكفُّ عن ترديد مفردات يمتلك المسؤولون الإسرائيليون، والأميركيون بالطبع، حساسيةً فائقة تجاهها، كالتركيز على النكبة، وإنهاء الاحتلال، والاستيطان والقدس واللاجئين والقانون الدولي والقرارات الدولية .. وغيرها من مفرداتٍ تشكل مفاتيحَ روايةِ شعب يريد المحتلون نقضَها وتغييبها وشطبها.
وكانت نقطة مركزية في سيرة صائب في أوائل التسعينات، عندما وجد هو وحنان عشراوي نفسيهما برفقة فيصل الحسيني في بؤرة الضوء الساطع، فخلال فترة قصيرة تحولوا من مواطنين عاديين إلى مفاوضين باسم شعبهم، وبتكليف من منظمة التحرير مع الولايات المتحدة قُبيل انعقاد مؤتمر مدريد.
وكانت تلك السنوات بالنسبة لهم الأصعبَ والأدقَّ والأثرى، فخلالها كانوا، وفيصل بصفة خاصة، عرضةً للضغوطات متعددة الجنسيات، وللإغراءات التي لا تصدَّق من قبل الأشقاء والأصدقاء والمحايدين والأعداء، وكانوا عرضة لأضواء ساطعة من وسائل الإعلام كفيلة بإفقاد آخرين اتزانهم. كانت تلك المرحلةُ بمثابة معمودية نارٍ اجتازوها بشجاعة وقناعة ودون ادعاء، وكان انتصارهم عندما أبلغ اسحق رابين المقربين منه في ربيع 1993 بأن «لا فائدةَ من هؤلاء»، ويقصد قيادات الداخل، و»لا مفرَّ من الحديث مع آشف» ويقصد منظمة التحرير الفلسطينية، وأعطى الضوء الأخضرَ للتركيز على قناة أوسلو التي توصلت بعد ذلك بفترة قصيرة إلى اتفاق إعلان المبادئ.
في تلك الفترة وما تلاها حتى رحيله، كانت تتعزز في صائب ملَكةٌ أصيلة لديه هي الشجاعة التي تتخذ أشكالاً من المشاكسة والمشاغبة، فهو رائد الدبلوماسية الخشنة التي تنطق بالمواقف الصحيحة دون اعتبار إلا للمصلحة الوطنية العليا. لذلك كان صوتُه ينطلق قوياً صريحاً مباشراً في مقرات وقصور الرؤساء والملوك من مختلف الجنسيات، وفي اجتماعات الوزراء العرب. وكانت تدخلاتُه ومداخلاته الصريحة والمباشرة واللاذعة أحياناً تلقى دائماً ترحيبَ وارتياحَ ياسر عرفات ومن بعده محمود عباس، فقد كان ينطق بما لا يتوجب أن يقولاه بالطبع وهما في موقع المسؤول الأول.
ومن المؤكد أن هذه المواقف لم تُكسِب صائب وُدّاً لم يسعَ إليه، ولا إعجاباً لم ينتظره، ولا غنائمَ لم يفكر بها، بل عادت عليه بمواقف ومشاعر استياءٍ وتحسُّس ورفض، وكراهيةٍ في بعض الأحيان. وأصبح من المعتاد أن تصل الرسائلُ الأميركية والإسرائيلية عبر قنوات ووسائل مختلفة ومتعددة الجنسيات إلى ياسر عرفات ومن بعده محمود عباس «تنصح» بتغيير صائب في قيادة المفاوضات «لأنه ليس عملياً، وليس جاهزاً لعقد اتفاق»، وكانت هذه الرسائل تقابَل من أبو عمار ومن بعده أبو مازن بابتسامات ساخرة ورفض صريح، وبتجديد للثقة بصائب، غير أنه من المؤكد أن هذه المواقف حصدت لصالحه احتراماً يستحقه من الأشقاء والأصدقاء والأعداء والمحايدين.
ولم تكن شجاعةُ صائب انتقائية، فما يقوله في الغرف المغلقة كان يكرره في اجتماع جماهيري في قرية فلسطينية، وكان يتصدى ليطرح الموقفَ الفلسطيني في قضايا خلافية بالنسبة للرأي العام، كالعمليات ضد المدنيين وإطلاق الصواريخ في فترات معينة. كان بإمكانه الامتناعُ عن الرد على هواتف المراسلين أو الاكتفاء بإصدار موقف باسم مصدر مسؤول، لكنه كان يتصدى لإعلان الموقف الرسمي الفلسطيني الذي أقرت القيادةُ أنه يخدم المصالح الوطنية العليا. فلم يكن من الباحثين عن المواقف المريحة لشخصه، ولا كان من أسرى المواقف الشعبوية، بل كان يتمسك بالمواقف الصحيحة المُكلِفة والصعبة. وبعد سنوات عندما تبنى الجميع تقريباً مجملَ المواقف التي دافع عنها لم يحاول تسجيل نقاط على أحد.
ومع أن المفاوضات بشكل عام ليست مهمةً حسنةَ السُّمعة ولا تحظى عادةً بالشعبية، غير أن كبير المفاوضين حقق الاستثناء وبقي محتفظاً بشعبية عالية بين أبناء شعبه. وفي جميع الأحوال لا يكفي السياسي الملتزم بقضية وطنية أن يقول الصدق، نجاحُه المؤكد يكون عندما يصدقه الآخرون، وهذا ما تحقق أيضاً لصائب، فالحسُّ الشعبي الذي لا يخطئ كان يصدّقه ويثق به ويعتبره ضمانة، وفي مجتمع صغير كمجتمعنا كان يمكن للمواطن العادي أن يلحظ أن وهج السلطة والمنصب والنفوذ وأضواء الإعلام والعلاقات الواسعة لم تغير صائب، ولم تفقده بساطتَه ومكوناتِ شخصيته وسلوكياته.
أما خارج شخصيته المقاتلة المتحدية، فقد كان صائب شخصاً آخرَ على صعيد التنافس داخل الهيئات الفلسطينية، فهو ومع امتلاكه طموحَ التقدم إلى الصفوف الأولى، إلا أنه كان يفتقد متطلبات القدرة على بناء التحالفات المتغيرة و»التزبيطات» في التنافسات الداخلية المريرة، خاصةً في المؤتمرات والانتخابات الحركية، فقد كان يسعى طوال الوقت إلى أن يكون بعيداً عن التنافسات الداخلية، وأن يكون نقطةَ التقاء دون أن يتنازل عن طموحه، مراهناً على ما يقوم به وما يمارسه، وكان رهانُه صحيحاً، إذ وفَّر له ذلك دعماً حاسماً من رأس الهرم، وقبولاً من معظم المتنافسين، إقراراً بأنه لا غنى عنه، وتأييداً صادقاً من قواعد الحركة وشبيبتها.
ومن زاوية أخرى، فصائب هو الرجل البيتوتي وربُّ العائلة بامتياز، الذي يحرص على قضاء الوقت الثمين مع زوجته وابنتيه وابنيه، ولاحقاً مع أحفاده، وهو الذي يمتلك حسّاً ساخراً وقدرةً على إثارة الفرح والضحك في مجالسه الخاصة مع العائلة أو مع الأصدقاء، وهو أيضاً الذي يحرص على اقتناص ساعات لمشاهدة فيلم جديد، وهو أيضاً المشجع المتعصب لـ «ريال مدريد».
وفي اتصالاتنا الهاتفية الأخيرة، بعد أن داهمه الفيروس، كنتُ أشعر أن لديه وجعاً أعمقَ في قلبه وروحه، وهو يراقب ذل ومهانةَ بعض العرب المهروِلين نحو التطبيع، وكان أكثرُ ما يجرحه محاولةَ هذا البعض الزجَّ بفلسطين لتبرير وتغطية سقوطهم، إلى درجة تبني الرواية الصهيونية ومحاولة ذبح وهدم الرواية الفلسطينية.
قبل نحو ثلاثين عاماً في واشنطن، قال لي مازحاً: عِدني بأن تهتمَّ إذا استُشهدت. وجاريتُه في مزاحه قائلاً: لا تقلق، سنُصدر في تونس بيانات عديدةً، وسنطبع ملصقاتٍ جميلةً نوزعها على جميع السفارات والجاليات حول العالم، وسيقوم الإخوان بواجبهم في الداخل. وسنعمل كي يتم إطلاق اسمك على شارع فرعي صغير في أريحا. فقاطعَني: ولماذا شارع فرعي؟، فأجبته: لن يجيءَ أحدٌ في المستقبل ليغير اسمَ شارع فرعي، سيسعَون وراء الميادين والشوارع الرئيسية، فضحك قائلاً: أقنعتَني.
ولكن، الآن تغيرت أمورٌ عديدة، ولن تعود إلى ما كانت عليه في حضوره، فقد سار صائب علي عريقات يوم الأربعاء في رحلته الأخيرة من البيت الذي عاش فيه طوال حياته، إلى مقبرة المدينة التي أحبَّ، وعاصمة المحافظة التي انتخبته مرتين، وبأرقام عالية، لتمثيلها في المجلس التشريعي، والتي بذل جهوداً هائلة لتطويرها ورعاية مواطنيها، ومضى في رحلته الأخيرة قبل أن يتحقق حلم الحرية والاستقلال الذي كان مسكوناً به وكرَّس حياته لإنجازه.
غير أن ما هو مؤكدٌ الآن، وبشكل حاسم، أن 24 ساعة في اليوم و7 أيام في الأسبوع، وحياةً واحدة قصيرة، كانت كافيةً على الأقل كي يحفر صائب عريقات مكانه ومكانته في سِفْر التاريخ الفلسطيني الذي تحتشد فيه أسماءُ الآلاف من القادة والزعماء والأبطال والمبدعين، وكانت كافيةً كي يكتبَ بحروف بارزة سطور سيرة ملهِمة ومضيئة لفلسطيني فخور شجاع.