كتب رئيس التحرير: في أيار الماضي أعلنت القيادة الفلسطينية قراراً ربما كان الأجرأ منذ رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات ما جاء في كامبد ديفيد بداية الألفية الثانية، فالتف الفلسطينيون حول القرار، وتوحدت لأول مرة منذ سنوات كلمة جميع الفصائل الفلسطينية.
كان قرار قطع العلاقات في وقته تماماً، في جوٍّ أمريكي بامتياز، وقرارات إسرائيلية وضعت القضية الفلسطينية وحقوق الشعب في مهب الريح، فما كان من ردٍّ أبلغ من قطع العلاقات، و"كب الزيت بالفار".
أدى قطع العلاقات بشكل كامل مع الاحتلال الإسرائيلي إلى توقف التنسيق المدني أيضاً ووقف استلام المقاصة، ومن هنا بدأ الخلل في هذا القرار الوطني الذي لا يُمكن لفلسطيني الاستخفاف به أو انتقاده بشكل عام، إلا أن بعض الجزئيات في هذا القرار كانت موضع ضعف وخلل، ما أدى إلى عدم المقدرة على الاستمرار بتنفيذ القرار من الناحية العملية.
حذرنا مسبقاً من مسألة عدم التمييز بين التنسيقين المدني والأمني ورفض استلام المقاصة، فوقف التنسيق المدني ووقف استلام المقاصة أثرتا بشكل كبير وكامل على الشعب والمواطنين، فيما لم تتأثر إسرائيل أبداً بهذين الإجراءين، تراجع الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير جداً في الأشهر الستة من المقاطعة، وتضرر عشرات آلاف الموظفين الحكوميين الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على تلبية الحد الأدنى من مقومات الصمود والحياة.
في الوقت نفسه، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها وحيدة في مواجهة أمريكا وإسرائيل، لا إسناد عربياً، بل على العكس تماماً فقد وقع الكثير من العرب في مستنقع التطبيع وخيانة قضية فلسطين، كذلك فقد وقفت الفصائل موقف المتفرج، وكأنها لا دخل لها بما يجري!
ربما كان موقف ووضع السلطة الفلسطينية السياسي خلال الأشهر الستة الماضية أشبه ما يكون بالفترة التي سبقت توقيع اتفاق أوسلو، فتخلي العرب وضعف الجبهة الداخلية، والتشرذم الفلسطيني كلها أسباب ربما تدفع بالسلطة إلى قبول الحد الأدنى من المطالب، أو البحث عن سلم تنزل من خلاله عن الشجرة التي تسلقتها، فلم تجد معها أحداً، ووجدت الجميع ينظر إليها كيف تثبت وكيف تتأقلم دون أي مساعدة، حتى أن البعض كان يدعو "يا رب يقع"!!
يبدو أن السلطة فضلت النزول عن الشجر بدل السقوط عنها، أي أنها اختارت أخف الضررين.
بعد حوالي 6 أشهر على وقف العلاقات مع إسرائيل، وهو القرار الذي أعلنه الرئيس محمود عباس بالصوت والصورة، خرج عضو اللجنة المركزية لفتح حسين الشيخ عبر موقع تويتر ليكشف بتغريدة عودة العلاقات مع إسرائيل، بعد تأكيدها الالتزام بالاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير والسلطة.
هنا لا بد من ملاحظة أن مُعلن قرار وقف العلاقات لم يكن هو نفسه الذي أعلن عودتها، وهو ما يعطي مجالاً للسلطة الفلسطينية للمناورة قليلاً، وربما يكون رداً على رسالة الاحتلال التي وقعها (المنسق) ولم يوقعها الرئيس الإسرائيلي أو رئيس وزراء الاحتلال، لأجل ذلك لم يُعلن عودة العلاقات الرئيس الفلسطيني أو رئيس الوزراء.
كان قرار عودة العلاقات مفاجأ للشارع الفلسطيني، الذي توقع عودة العلاقات رسمياً مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ثم تليها عودة للعلاقات مع الاحتلال، كذلك فإنه اتخذ بمعزل عن الفصائل الفلسطينية التي أيدت قرار وقف العلاقات، وبمعزل عن منظمة التحرير.
من المراجعات المهمة فلسطينياً هو مراجعة موقف الفصائل التي صفقت لوقف العلاقات، ولم تفعل بعد تصفيقها شيئاً يدعم القيادة الفلسطينية التي جابهت الضغوطات، والتي هي في "بوز المدفع".
لم تدفع الفصائل نحو تحقيق الوحدة بشكل جدي وفعلي، لم تتواصل مع الجماهير لتعزيز الجبهة الداخلية وتمتين الصف الفلسطيني والتخفيف عن المواطنين، لم يكن خطابها الإعلامي داعماً للموقف الفلسطيني على طول الشهور الستة الماضية، لم تكن لهذه الفصائل أي تحركات عسكرية أو جماهيرية ضد الاحتلال، لم تخرج بمسيرة واحدة دعماً للموقف الفلسطيني ضد أمريكا وإسرائيل، أي أنها كما قلنا كانت تنظر إلى السلطة الفلسطينية وهي تتسلق الشجرة، دون أن تمد لها يد المساعدة!
بدأت بيانات الفصائل تهطل كالمطر يوم إعلان عودة العلاقات، وهي التي كانت صامتة على طول فترة وقف العلاقات، بدأت الشعارات الوطنية تتردد من أفواه أناس لم يستطيعوا جمع 50 شخصاً في مسيرة واحدة، وهم نفسهم من طالبوا ويطالبون بمخصصات فصائلهم من منظمة التحرير!
لا بد وكمراجعة سريعة وتقييم أولي لقرار السلطة الفلسطينية بإعادة العلاقات مع إسرائيل للإشارة إلى ما يلي:
أولا: أجبر الفلسطينيون على هذا القرار في ظل وضع سياسي واقتصادي صعب للغاية، أي كان "مُرغماً أخاك لا بطل"، في وقت أغلقت فيه كل الأبواب في وجه الشعب والقيادة، فما هي الخيارات والبدائل أمام السلطة في هذا الوقت؟ وهل قدمت الفصائل مقترحات لتخفيف الضغط عن القيادة أو التعامل مع شعب كامل بدأ يجوع؟
ثانياً: اختارت القيادة إعادة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي وليس مع الجانب الأمريكي كبادرة حسن نية لإدارة الرئيس الأمريكي الجديد، فبدل إعادة العلاقات مع إسرائيل وأمريكا، اختارت السلطة إعادة العلاقات مع تل أبيب، وانتظار الموقف الأمريكي من الصراع، فإما أن تعود العلاقات مع واشنطن أو تظل معلقة.
ثالثاً: الفصائل التي غابت عن المشهد وغابت عن إسناد قرار وقف العلاقات لا حق لها في رفض إعادة العلاقات، وعلى الرغم من غياب الشراكة والمشاورات بين الفصائل والسلطة الوطنية فان واجب الفصائل تفهم الواقع الفلسطيني والتعامل معه بإيجابية.
رابعاً: من الخطورة بمكان أن تعود السلطة للحوار مع أمريكا أو المفاوضات مع الاحتلال دون المحافظة على الوحدة الوطنية وخسارة التفاف كل الأمناء العامين حول منظمة التحرير الفلسطينية والسماح بخسارة ما تم تحقيقه في حوارات المصالحة الفلسطينية.
خامساً: انكار الفصائل صمود الشعب الفلسطيني وقيادته في مواجهة صفقة القرن وتوابعها خطأ جسيم والحديث من قبل قيادات السلطة عن انتصارات سياسية كبرى هو كارثة، فحن لم نفعل شيئاً، ولا داعي لهذه الشعارات التي ليس لها علاقة بالواقع، بل أن هذه الشعارات هي جزء من عدم قناعة الشارع الفلسطيني بالخطوات الفلسطينية سواء كانت صحيحة ام لا.
الأخطر في الموضوع أن يتم ربط الوحدة الوطنية بعودة العلاقات مع إسرائيل، فإذا أقدمت حماس والفصائل على هذه الخطوة ورفضت استكمال المصالحة فإن مصيبة عظمى بانتظار الشعب الفلسطيني، وستظل القضية من انحدار إلى آخر.
لم ننتصر في هذا "الملف"، ولم نخسر، فقط بقينا أحياء، وهذا أضعف الإيمان، والأيام بيننا وبين الاحتلال الإسرائيلي طويلة، ربما نكون ضعفاء اليوم، لكن من يدري كيف نُصبح غداً!