كتب رئيس التحرير: ضربت إسرائيل اليوم مجدداً العقل الإيراني، فاغتالت عالماً من أهم علماء المشروع النووي، وهو الملقب بأبو المشروع، (محسن زادة)، الاسم الذي هدد نتنياهو باغتياله (تلميحاً)، عندما كشفت إسرائيل بعض أسرار المشروع النووي الإيراني قبل عامين.
حينها، تفاخرت إسرائيل بـ"إنجازها"، وقال بنيامين نتنياهو وهو يستعرض عضلاته، "تذكروا هذا الاسم جيداً" مشيراً إلى "محسن زادة".
وقتها وجه الاتهام إلى الموساد الإسرائيلي، وكان الكل يعلم أن إسرائيل حصلت على ما حصلت عليه من خيانة إيرانية داخلية، وعملاء إيرانيين مرتبطين بالموساد، واليوم ضربت نفس الخلايا المرتبطة بإسرائيل عقر البيت الإيراني، وكان صيدها سميناً!
سببان اثنان، واحد منهما يقف وراءه اغتيال "زادة"، فإما أن تل أبيب تريد إشعال شرارة الحرب حتى يضع الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته الوقود عليها وينخرط بها، وهو أمر لا يزال ترامب يفكر به جدياً قبل مغادرته البيت الأبيض، فتكون بذلك إسرائيل قد جرّت أمريكا إلى مستنقع الحرب مع إيران، وما يعنيه ذلك من دمار لإيران ومشروعها النووي وطموحها.
السبب الثاني لعملية الاغتيال هي أن إسرائيل تعرف تماماً أن إيران لن تفسح المجال للفرصة الأمريكية لشن حرب عليها، وهي تعلم أنها ستكون الخاسرة في الحرب مع واشنطن، لذلك فتل أبيب تدرك أن عملية الاغتيال ستمر مرور الكرام، أو سيكون ردها محدوداً جداً، فاستغلت بذلك هذا الظرف حتى تزعزع المشروع النووي الإيراني وتعيده سنوات إلى الوراء.
لكن، هل حقاً تريد أمريكا وإسرائيل حرباً على إيران؟
عودوا سنوات إلى الوراء، وتحديداً عندما قررت أمريكا شن حرب على أفغانستان، وعودوا كذلك إلى الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، كلتا الحربين شُنتا بدعوى تهديد واشنطن، وأن عراق صدام حسين كان يمتلك أسلحة الدمار الشامل، أو هكذا اعتقدوا، وكذلك تهديد أفغانستان وطالبان لمصالح أمريكا!
أفغانستان والعراق بلدان على الحدود مع إيران، تم تدميرهما للسبب نفسه، لكن، لماذا لم تشن أي حرب على إيران مع العلم أن مشروع إيران النووي تهديد فعلي وواقعي إذا قررت طهران استخدامه عسكرياً؟
السبب واضح وضوح الشمس، وصار أوضح أكثر مع اتفاقيات التطبيع الأخيرة، وقبل ذلك في الأراضي العربية التي خصصت للقواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية في الخليج العربي!
أمريكا لا تريد تدمير إيران فعلياً، ربما توجه لها ضربة أو لكمة محدودة، قرصة أذن كما يقولون لإثبات العداء لهذا النظام أمام العالم، لكن لن تقوم أمريكا بضرب طهران كما ضربت بغداد، وسبب ذلك أن واشنطن تريد استمرار وجود البعبع أمام دول الخليج، حتى تظل دول النفط تهرول إلى الحضن الأمريكي والإسرائيلي لتشعر بالدفء والأمان.
اتفاقيات التطبيع الأخيرة هي ترجمة فعلية للخوف الخليجي من البعبع الإيراني الذي تريد أمريكا استمراره، لكن وفق النطاق المرسوم له، وتل أبيب تدرك جيداً هذه المعادلة، وهي تقطف الثمار مع واشنطن، وتجني أموال الخليج دون عناء أو مشقة.
قرار إسرائيل بالتطبيع مع الإمارات، كان قراراً ذو بعد عسكري أمني، وهو أمر أشرنا إليه في مقال سابق، فإسرائيل لا تريد شيئاً من الإمارات إلا أن تكون قاعدة إسرائيلية لا تبعد إلا مرمى حجر عن إيران. وقد فطنت طهران إلى ذلك مبكراً، وهددت النظام الإماراتي بدفع الثمن إذا استخدمت أراضيه لأي عدوان عليها. بعكس الإمارات التي كان قرارها للتطبيع ذو هدف اقتصادي وأمني لكن من زاوية أخرى، فالأمن من وجهة النظر الإماراتية هو الاحتماء من إيران.
كذلك كانت زيارة نتنياهو للسعودية التي لم تعلن التطبيع بعد، جاء زيارة نتنياهو وبومبيو للأمير محمد بن سلمان (على ذمة الإعلام العبري) لتكون زيارة عسكرية أمنية بامتياز، لمواجهة الخطر الإيراني، أو لإقناع السعودية مجدداً بأهمية دحر هذا الخطر.
لسان النظام الإيراني "بشعبتين"، هو أطول من مدى صواريخها، يُشبع الناس شعارات وخطب لا قيمة لها، ولأنه يدرك المعادلة التي ذكرناها سابقاً فهو يدرك أيضاً المدى الذي يستطيع اللعب فيه، فكم صاروخ أطلق من إيران صوب إسرائيل؟ كم من سفارة أمريكية قصفت بالنيران الإيرانية؟ (صفر)!
النظام الإيراني يدرك أنه بعبع من سراب، وأنه مهترئ من الداخل، وأن مشروعه النووي لا شيء إذا قررت أمريكا ضربه، هو ورقة مساومة ومفاوضات فقط، وعندما تمحى العقوبات عنه فسوف يتخلى عن هذا الحلم، كما تخلى معمر القذافي عن مشروعه المماثل.
على كل الأحوال، ما جرى اليوم من قتل للعالم الإيراني لن يحرك شيئاً عظيماً في المنطقة، لن يتسبب باندلاع حرب، تماماً كما لم يتسبب اغتيال قاسم سليماني باندلاعها.
سيُدفن العالم النووي كما سليماني، وسيظل النظام الإيراني قائماً بدور البعبع، وسيظل الخليج يرتمي في حضن تل أبيب وواشنطن لطلب الحماية، بالمال العربي، وبالأرض العربية، وببيع القضية الفلسطينية والقدس، فالمهم عند أنظمة دول الصحراء استمرار حكمها مهما كانت التكلفة.