اقترب الشاعر العباسي «أبو نواس» من الخليفة «هارون الرشيد» الشارد عند نافذة يتأمل جمال الطبيعة، وبلطفٍ ضربه على قفاه! فالتفت إليه الرشيد غاضباً ويده على مقبض سيفه، فقال الشاعر: معذرة مولاي! ظننتك سيدتي زينب.
جن جنون الخليفة وكاد يفتك به، لكن الشاعر استمهله قائلا: يا مولاي! هذا هو المثال الذي طلبته مني على العذر الذي يكون أقبح من الذنب.
ضرب أبو نواس المثل ومضى، ثم أتى زمان الفنان محمد رمضان، وجاء كل فعله ذنب، ثم كان اعتذاره عن بعض فعله أقبح من ذنبه، ليس على وجه الفرض والتمثيل، وإنما على وجه الحقيقة.
صور «سيلفي»
في ود ظاهر، التقط عدة صور «سيلفي» مع مغنٍ إسرائيلي يدعى «عومير آدام» وإسرائيليين آخرين.. جاءت ردة فعل الجماهير من الخليج إلى المحيط غاضبة ناقمة، ليس عليه وحده وإنما على هذه الدولة التي تقود حملة التطبيع وتتولى كِبرها، وفيها كان فيها الحفل والصورة مثار سخط العرب.
كان في وسعه أن يعتذر عن الصورة لو كان -حقًا- لا يعلم، أو كانت قناعاته ضد التطبيع، لكن جاءت الصورة على وفق هواه؛ فقدم جملة فضفاضة مهلهلة زادت ورطته، وفي محاولة تعيسة لامتصاص الغضب كتب عبر صفحته في موقع فيسبوك: (مابسألش عن بلد اللي بيتصور) لكنه لم يستطع إنهاء منشوره بادعاء الجهل، بل أعطى موافقة ضمنية على الصورة، مستشهدا بقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وعلى رأي أحدهم: «يا واد يا مؤمن».
إمعانًا في التمويه، لجأ «نمبر وان» إلى نظرية المؤامرة، زاعمًا أن الغاضبين من تصرفه التطبيعي مجرد نافخين في كير النِقمة، موتورين من نجاحاته وشعبيته منقطعة النظير، وكأننا أمام مارلون براندو أو أنطوني هوبكينز أو غيرهما من عمالقة الفن العالمي.
لم يتراجع أو يتأسف، بل كتب «لا يهمني اسمك ولا لونك يهمني الإنسان ولو ملوش عنوان.. قضيتهم الحقيقية هي المحاولة الألف لإيقاف شعبيتي».
تبريرات سطحية وغير مقنعة، لم يحدثنا مثلا عن الطائرة الخاصة المرسلة له، ولا عن إقامته الذهبية في الإمارات، ولا عن السيارة المهداة إليه، وما خفي علينا من ذلك أعظم، وإن كان هو لا يعلم بجنسية الإسرائيلي؛ فإن حمد المزروعي بصفته صديقه المقرّب وحلقة الوصل بينهما يعلم ذلك علم اليقين، وقد بدا معهما في الصورة التطبيعية!
نُشرت الصورة في حساب المزروعي مصحوبة بعبارة: (الفن دوماً يجمعنا) ومنه انتشر إلى صفحة إسرائيل بالعربي، وهلّل لها المطبِّعون دون خجل، ونسأل: هل قصد المزروعي أن الفن جمعهم بعد تطبيع الإمارات أم قبله؟
والحقيقة أن الفن الذي يجمعهم لا يجمعنا، ولا يجمع شرفاء العالم مع الغاصبين المحتلين، فقد امتنع 26 من كبار نجوم هوليوود، عام 2016 عن تلبية دعوات لزيارة إسرائيل في رحلات سياحية مجانية وفاخرة. من بين هؤلاء النجوم مات ديمون وليوناردو دي كابريو وجميع المرشحين لجائزة أفضل ممثل أوسكار لذلك العام، لم يقولوا إن (الفن دومًا يجمعنا)لأنهم يعرفون معنى الفن حقًا؛ فالفن موقف..
الفن رسالة وسلاح سحري في يد الإنسانية لنشر القيم، قال أحدهم يومًا: «الفن الجيد ليس ما يبدو في ظاهره، بل ما يفعله في حياتنا» لكن أنى لـ «نمبر وان» أن يدرك هذه المباني والمعاني!
نجحت مواقع التواصل في كسر إرسال صمت الأنظمة العربية، وصمدت أمام موجات الترويج للتطبيع، وآخر هذه النجاحات مسجّل ضد «نمبر وان» فأوقفته نقابة المهن التمثيلية عن العمل، ما دفعه للاعتذار قائلا «لو كنت أعلم أنه إسرائيلي، مؤكد كنت رفضت التصوير» مستدركًا «أنا في دولة عربية، والموقف جديد علينا».
نار التطبيع
عذرك مرفوض يا فنان! فتلك الدولة العربية تحمل نار التطبيع بين يديها، وترمي بها في كل ركن، وتتلهف أن يتبع العرب عن بكرة أبيهم نهجها، وأن يهرولوا إلى «جنة التطبيع» ولو كان ذلك على حساب كرامتهم ومبادئهم.
ليست المشكلة في أنه موقف جديد علينا يا فنان، إنما المؤسف أنك مجرد أداة استخدمتها أنظمة دولية لترويج التطبيع، استفادت من شعبيتك ونجوميتك وسط الشباب.
هذه نقطة سوداء في تاريخك المهني، خطيئة لا تُنسى ولا تُغتفر على مر العصور، فمن يتحلل من مبادئه تلفظه القلوب قبل العيون، وقد رسبت في هذا الاختبار بامتياز قلَّ نظيره.
في الإطار ذاته -ومن غريب المقارنات أيضًا- خرج علينا بعضهم بنشر صورة أمير القلوب محمد أبو تريكة مع مشجع إسرائيلي خلال بطولة كأس العام في روسيا 2018.
لكن ما لم يعلنه هؤلاء في مقارنتهم أن أبو تريكة اعتذر عن الصورة، وأكد أنه لم يكن يعلم هذا الشخص قائلا: «لم أكن أعلم، وأعتذر عن الصورة، الكيان الصهيوني لا ولن نعترف بهم؛ فهم قتلة واحتلال، والقضية الفلسطينية هي القضية الأولى للشعوب العربية والإسلامية».
ثمة فروق واسعة بين أمير القلوب و«نمبر وان» في نقاط عدة:
1ـ معرفة رمضان مسبقًا بالشخص الذي تصوّر معه (وإن نفى ذلك بعدما أوقفته النقابة عن التمثيل) وعدم معرفة تريكة بالمشجع الإسرائيلي.
2ـ لم يعتذر رمضان وبرر تبريرات سخيفة وغير منتقية (ثلاث مرات) بينما اعتذر أبو تريكة عن الصورة من المرة الأولى وبشكل واضح وصريح.
3ـ لم ينتقد رمضان إسرائيل بكلمة واحدة، بينما وصفهم أبو تريكة بأنهم قتلة الأطفال.
4ـ يعلم الجميع مواقف أبو تريكة المناصرة لغزة، منها مثلًا احتفاله الشهير بقميص «تعاطفًا مع غزة» الذي شاهده الملايين خلال مباراة السودان بكأس الأمم الإفريقية 2008، بينما لم يقدم رمضان شيئًا لغزة ولا فلسطين، إنما طعنهم في ظهورهم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. يكفي أن عذر أبو تريكة يغفر ذنبه، بينما عذر محمد رمضان أقبح من ذنبه.
موقف رمضان مخزٍ ويستوجب ليس فقط إيقافه عن التمثيل، وإنما طرده من نقابة الفنانين ومقاطعة أعماله، كما يضع نقابة الممثلين واتحاد النقابات الفنية أمام اختبار حقيقي؛ إما الانحياز لإرادة الشعوب، وإما السقوط في القاع بالخضوع لتطبيع رمضان وأمثاله.
بينما يهرول كثيرون إلى التطبيع طلبًا لمكسب سياسي أو مالي، ترفض الشعوب العربية هذه المكاسب الرخيصة، وتؤكد التزامها بالدفاع القضية الفلسطينية، وليس في وسع الشرفاء التفريط في فلسطين لقاء حفنة من المكاسب، مهما كانت مغرية.