كتب رئيس التحرير: "القوي يكتب التاريخ"، والقوي في المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية بغض النظر عن الأحقية التاريخية هو الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يتوقف عند فرض قوته على الأرض، بل يسعى كذلك إلى فرض قوته وتأثريه على العقول والتاريخ.
تمتلك إسرائيل ماكينة عسكرية ضخمة، وبموازاتها تمتلك ماكينة إعلامية مُرعبة، تعمل جنباً إلى جنب مع القوة العسكرية لتحقيق مصالح تل أبيب، وفرض روايتها على العقول وشاشات التلفزة.
لم يكن تقرير الصحفي الاسرائيلي "جال بيرغر" عن الفنادق والمطاعم في رام الله وبيت لحم غريباً أو جديداً، فهو استمرار لماكينة إعلامية تعمل ليل نهار، ولم يكن النقاش الفلسطيني الداخلي حول هذا الموضوع جديداً أيضاً، بل كانت مخرجات هذه النقاشات هي مخرجات نقاشات سابقة.
لا يقود الإعلام العبري صحفيون مستقلون، بل ضباط مخابرات متمرسون في غسل الأدمغة والتأثير على العقول، وهو ما يعني أن كل سؤال يطرحه الإعلام الإسرائيلي سيكون مسموماً، وكل ملف يفتحه هذا الإعلام يكون الهدف من ورائه خبيثاً، وهو ما يتطلب حذراً مضاعفاً من قبل السياسيين الفلسطينيين، والمواطنين على حد سواء.
لا يُمكن إخفاء جزئية "محرجة" للإعلام الرسمي الفلسطيني، ومزعجة لبقية الصحافيين، وهي أن بعض المسؤولين الفلسطينيين يفضلون الإعلام العبري عن العربي والمحلي، لأمر لا يمكن تبريره أو فهمه، فترى مسؤولاً معيناً يصرح بمعلومات مهمة لهآرتس مثلاً دون إبداء اسمه، ما يعكس عقلية غريبة وتعلقاً غير واضحة معالمه بهذه الماكينة العبرية المخيفة.
إن هذه العلاقة "الودية" بين بعض المسؤولين والإعلام العبري يجب أن تُكشف للعلن، وأن يحاسب كل مسؤول يميل إلى كفة الإعلام العبري على حساب المحلي والعربي، بل يجب مقاطعة هذا الإعلام وحظره من مبدأ المعاملة بالمثل، حيث أغلقت إسرائيل مكتب تلفزيون فلسطين في القدس، وحظرت العديد من الفضائيات الفلسطينية في الضفة الغربية.
عودة إلى التقرير الأخير، فقد كان الهدف من ورائه واضحاً وهو أن إسرائيليين تركوا مصالحهم التجارية في تل ابيب واستثمروا في رام الله، ما يعني هجرة بعض رأس المال الإسرائيلي من إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية.
كذلك فقد حاول التقرير تكريس نظرة أن وضع الفلسطينيين جيد من الناحية الاقتصادية وأن الاحتلال الإسرائيلي لم يؤثر على وضعهم وثرائهم.
المتابع للاعلام الاسرائيلي يلاحظ ان لديهم تقريرا اسبوعيا يخدم هدف الاحتلال وهنا نذكر بتقرير بسيط في شكله ايضا تم بثه في إعلام الاحتلال حول طفل يتدرب على العزف داخل فلسطين المحتلة وأنه يأخذ درسه ويعود لرام الله ولا مشكلة لديه ولا حواجز تعيقه، وأظهروا مشكلة بسيطة أن والده لم يستطع ان يوصله بسيارته وان منعه فقط لأسباب أمنية، إضافة إلى الفيديو الذي تم بثه قبل أيام لجنود الاحتلال وهم يلعبون كرة القدم مع أطفال في الخليل مع ابتسامات ومعانقة معهم لإظهار إنسانية لجنود الاحتلال المجرمين الذين قتلوا الطفل علي ابو عليا 14 عاما يوم امس وحرقوا الطفل محمد ابوخضير قبل سنوات في القدس.
إعلام الاحتلال مُبرمج ولديه رسالة علنية وأخرى مخفية تخدم أجنداته ويتم توجيهها للداخل والخارج باحترافية عالية، وتوجه أيضا للإسرائيليين أنفسهم، فالتقرير الذي بُث من مطاعم رام الله أعطى رسالة ان الحكومة الإسرائيلية تغلق تل ابيب وحيفا ويافا وتجعل مواطنيها يتوجهون لصرف أموالهم في رام الله، وفيها أيضا رسائل مخفية التغطية على تجار يعملون مع الاحتلال الاسرائيلي والتسويق بمندوبيهم.
من الدروس المستخلصة هو أن إعلام الاحتلال الإسرائيلي يسعى بشكل مستميت لإضعاف الرواية الفلسطينية وضربها، واستبدالها برواية تل أبيب، لذلك فهو يستغل علاقاته مع بعض المسؤولين لينشر أخباراً حصرية عل ألسنتهم ليظهر بمظهر الملم والمطلع على كواليس السياسة الفلسطينية ودواخلها، في نفس الوقت فإن الصحافيين الفلسطينيين لا يستطيعون الحصول على 10% من المعلومات المهمة التي ينشرها الإعلام العبري على لسان مسؤولين فلسطينيين!
سيظل الإعلام الفلسطيني يتلقى الضربات من الداخل والخارج، من الجندي الإسرائيلي الذي يطلق النار ويفقأ عين معاذ عمارنة، ومن السياسي الفلسطيني الذي يفضل المنبر الإسرائيلي على المنبر المحلي، وسط ضعف ظاهر في وسائل الإعلام الفلسطينية بسبب ضعف التمويل وغياب التنافس الموضوعي، وغياب المختصين بالتحقيقات والتقارير المعمقة، وضعف المنظومة القانونية كعدم إقرار قانون الحق في الحصول على المعلومات.
في نفس الوقت، سيظل الإعلام العبري ينمو في أدمغة الفلسطينيين في ظل عدم وجود "بديل" فلسطيني قوي!