من الصعب أن تكتب في أي مسألة عامة، مهما كانت ملحّة ومهمة، وأنت تعيش تباريح ذلك الفرح المبهم، وتداهمك ذكريات صارت في خيالك بلون الغبار. فإن قلت: اليوم عيد ميلاد المسيح، قلت ناصرة الجليل ومهد بيت لحم والقدس، موئل الرجاء والبركة؛ وتخيلت، بشكل تلقائي، كيف يجتمع الناس في ملايين بيوت المعمورة حول مغارة فلسطينية، وفوقهم تتلألأ نجمتها وتغمرهم بالفرح وبالأمل والمحبة.

لم أعِ، قبل ستين شتاءً، معنى أوجاع الانتماء لهوية مركبة من طين ومن ماء ومن نار؛ وقد ولدت في عائلة عشق كبارها تناهيد البنفسج وبحة النايات وتقليب الكستناء في خواصر جمر لا ينام. أذكر زيارتي الأولى للناصرة عندما صحوت في فجر نديّ على أصداء الدهشة، وهي تفرّ من دموع عذراء. لم أفهم وقتها لماذا يولد ثائر كي يثقب سقف السماء ويزرع في صدور الناس معنى جديد للخلاص. بدأت الأسئلة تكبر وأنا كطفل شقي ألعب داخل كهف كان فيه مذود وضيع وأحلام من نور وقش. ثم ضعت، وأنا يافع، على كتف صخرة منحوتة من أرض الخيال، صارت دليل المؤمنين الأصم، على قيامة يعيشون من أجلها، وعلى رجائها يرقدون، مثلما علّمهم «فاديهم» قبل أن يصير ضحية إحدى أشهر مؤامرات التاريخ التي حيكت، منذ ألفي عام، بين أرباب المال وسماسرة الإيمان والسلطان.

حُسدت فلسطين وأهلها على هذه النعمة «السماوية» وزوحمت عليها عبر التاريخ؛ لكنني لن أسرد في هذه المقالة ما توالى على أرضها من جيوش وممالك، حتى استقرت أحوالها، في أيامنا، على سلطة فلسطينية لها ما لها من سيادة منقوصة، ونوافذ على العالم كله، وفوقها دولة تمارس احتلالا باطشا يمعن في نبش هياكلها ونسف جغرافيتها، وتحريف وقائع تاريخها، كما عرفته الأمم وآمن به أهلها منذ ألفي عام. كان أهل هذه البلاد أوائل بناة واتباع هذه الديانة، وكان من المفروض أن تصير أجيال المولودين في عائلات من صاروا المسيحيين الشرقيين، وارثي هذه الديانة الشرعيين وأصحاب كنائسها وأوقافها؛ لكنهم أُفشلوا وهزموا حتى وصلت أحوالهم اليوم إلى حالة اللاعودة، حيث مصير بقائهم في دول المشرق العربي، لاسيما في فلسطين الكبيرة، بات محسومًا. لن نخوض في أسباب تلك المأساة – وهي مأساة فلسطينية وطنية بالتحديد – التي ما زالت شرايينها تنزف، وأعداد الفلسطينيين المسيحيين تتناقص بشكل يومي، حتى خلَت منهم كثير من البلدات بشكل كامل، وستلحقها، كما أقدّر، مواقع اخرى قد يبقى فيها ما سميته مرة «محميات طبيعية» سيحافظ عليها كأطلال تدل على ماضي البلاد الدارس.

كانت الحرب على قلب فلسطين شرسة، ومحاولات سرقة «مسيحها» لم تتوقف؛ فكم حاول المستعمرون ذبحها كي تنتعش روما حينًا، أو القسطنطينية احيانًا، وتوالت عليها الحملات المسعورة حتى وصلنا إلى ما فعله الانتدابان، البريطاني والفرنسي، من تمزيق لجغرافيا المنطقة وتطييف لأهلها وتأليبهم على بعض. كان دور إسرائيل حاسمًا في التأثير في مكانة الكنائس المحلية، وترسيم خريطة صلاحياتها، فعملت، بدهاء، على إبقاء جميعها مللاً مستقلة ومتفرقة، وساندت رعاتها الأجانب في سيطرتهم على مقدّراتها، خاصة اليونانيين الذين تلقوا دعمها المطلق، وتسيّدوا بسببها على أكبر كنيسة ورعية عربية أصيلة وعريقة، فتحكموا بعنجهية مستعمر في رقاب عبادها المسالمين، وبحرية تامة في أوقافهم، كما شهدنا خلال السنين. لم تعمل إسرائيل، لأسباب دينية وسياسية واضحة، على تطوير المواقع المسيحية الكثيرة الموجودة داخل حدودها، ولا على تسويقها كمراكز سياحية عصرية، واكتفت بدعم ما يتناسق وسياسات بعض الكنائس الغربية التي تدعم إسرائيل وممارساتها العنصرية؛ وقد نرى بإهمال الناصرة، مدينة البشارة، المتعمد، أكبر دليل على هذا الإجحاف وهذه العنصرية. لم تنفرد إسرائيل بمخططاتها، بل تساوقت معها معظم رئاسات الكنائس المحلية، وشاركتها في لعبة استهدفت المحافظة على مكانة الإكليروسات الأجنبية الحاكمة، وما حصلت عليها من امتيازات؛ وفي الوقت نفسه تهميش مكانة الرعايا العرب وكهنتهم، وإخضاعهم لحالة من الاغتراب والانتماء المشوّه.

لم تقتصر معاناة الفلسطينيين المسيحيين تاريخيًا على مواجهة ذينك العدوّين، الخارجي الاستعماري والإسرائيلي العنصري، بل بدأوا يعيشون، منذ أربعة عقود، تداعيات هواجس وجودية مستجدة، وإرهاصات حالة من التناقضات الحقيقية داخل مجتمعاتهم، بعد تنامي قوة بعض الحركات الإسلامية السياسية، وتغلغل أفكارها الدينية الإقصائية في مفاصل الحياة اليومية، ما دفع بابناء الأقلية المسيحية الأصلانية إلى فقدان الثقة بمستقبل كانت ستحميه وتؤمنه العباءة الفلسطينية الجامعة. وكي لا أُفهم خطأ، فقد بدأت مشكلة المسيحية المشرقية قبل نشوء هذه الحركات الإسلامية، لكنها تفاقمت مع زيادة قوتها، وبسط سيادتها في بعض الدول العربية، وفي قطاع غزة، ونتيجة لتصرفات بعض أجنحتها، وفق مفاهيم عقائدية دلت على رفض قادتها لاحترام مبدأ تكاملية أنساغ المجتمع الواحد، وإصرارها على فرض قوانين الشريعة الإسلامية، وفق تفسيراتها الأصولية، على جميع المواطنين. الشواهد على ما يحدث داخل مجتمعاتنا، سواء كان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو داخل إسرائيل، كثيرة وموجعة ومقلقة؛ ولعل آخرها كان تعميم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الصادر عن حكومة غزة قبل بضعة أيام، وموضوعه، كما جاء في عنوانه: «فعاليات الإدارة العامة للوعظ والإرشاد للحد من التفاعل مع الكريسماس».

قد يكون ما يميز هذا التعميم أنه صادر عن حكومة من المفروض أن تمثل جميع مواطني القطاع، بمن فيهم كمشة المسيحيين الباقية هناك؛ لكنه يبقى في الواقع، من حيث المضامين والرسالة، تعميمًا شائعًا ومألوفًا، فقد سمعنا عن نشر مثله في مواقعنا مرارًا وتكرارًا، ومع قدوم كل عيد ميلاد. لم يبق في غزة إلا اقل من ألف مواطن فلسطيني مسيحي، وهم كعناوين طبيعية لمثل هذه الممارسات والتعميمات، ليسوا بحاجة إلى هذا «التشجيع» كي يهاجروا منها، اذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ أما إذا لم يكونوا هم العنوان، كما حاولت وزارة الأوقاف إقناعنا في تأكيد لها نشر في منشور تبريري، صدر بعد قيام زوبعة الاحتجاجات على التعميم المذكور، فعندها سيكون عذرهم أقبح من ذنب. على جميع الأحوال، لم يكن نأي كاتبي ذلك التعميم عن استعمال كلمة «الميلاد» واستبدالها في العنوان بكلمة «الكريسماس» مجرد سهوة عابرة، لأنهم يعرفون بالتأكيد ما يعنيه «الميلاد» لأهل فلسطين وما تشكله المناسبة في هويتها التاريخية والحاضرة والمستقبلية؛ وبما أنهم يفقهون تلك الحقيقة جيدًا فسيكون من الصعب عدم فهم موقفهم كمحاولة لتضييق الهوامش في الحيزات العامةـ وتقييد حريات الأفراد ومحاولة لتشويش معالم تلك الهوية، وذلك تمامًا كما فعلت جهات أجنبية واسرائيلية من قبلهم، وما زالوا يحاولون. لا يمكن إخراج نص التعميم المذكور عن سياقات الخطاب الشائع في أدبيات وفتاوى بعض تلك الحركات، فانتقاء اسم «الكريسماس» وليس «الميلاد» يقصد منه أيضًا إفهام عامة الناس على أن المحتفلين بهذه المناسبة ليسوا «منّا» وهي اصلًا مناسبة غربية دخيلة؛ وهذا في الواقع يضاف إلى تمنع الكثيرين من توظيف مصطلح المسيحيين، أو العرب المسيحيين، وتعمدهم اللجوء إلى تسميات مقصودة مثل الفرنجة أو الصليبيين، أو إلى نعتهم بالنصارى، وهي تسمية لها تفسيراتها العقائدية الملتبسة.

كم تمنينا على جميع قياديينا، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي الداخل الإسرائيلي، أن يتنبهوا لهذه المخاطر وأن يقفوا في وجهها بشدة وبوضوح؛ فهوية فلسطين المسيحية الأصيلة وانتماء بعض اهلها لتلك الهوية، ليس بمعناها الديني الإيماني الضيق، هما معطيان تاريخيان راسخان وضرورة المحافظة عليهما هي مصلحة وطنية عليا. وإن قلنا الميلاد قلنا الناصرة والقدس وبيت لحم وجميع أرجاء فلسطين، فلغزة سيبقى أهلها وبحرها وفجرها الأخضر، ولسائر فلسطين الأمل وميلادها ومهدها، ولنا جرعات الخل وأسئلة القلق والشوك، وعبق البدايات وسحر البشارة ومدينتها، التي يجب أن تكون أكبر من عاصمة لجليل مارد، لأنها من أهم مدن العالم، بعد القدس وبيت لحم، تمامًا كما صرح ويصرح بإصرار رئيس بلديتها الحالي، علي سلام، في موقف لافت يحسب له.