ليس «سالم خلة» من يُكتب عنه بفعل الماضي، فمعناه التسليم بأن قصة جميلة قد طُويت. حُمْتُ حول الموضوع وتاه قلمي لدى الكتابة عن صديق أكثر منه رفيق. أأكتب عن التاريخ الطويل من الشراكة في النضال، ام عن الظروف العامة التي أحاطت بمرضه، ام عن الجنازة الحاشدة وكلماتها الصادقة والمؤثرة قبل مواراتك التراب في زمن «الكورونا» التي تضيق علينا سبل العيش.. أم عن صورنا المشتركة التي التقطت لحظات حُبست في صور فوتوغرافية من ذلك الزمن الجميل انتقلت في حقائبنا من ساحة الى أخرى، عساها تشهد على حقبة تعود إلى حوالي خمسين عاما.. حين تذكرت جملة تشبه الهذيان قالتها «أم زياد» في الجنازة، أخرجت قلمي من ضياعه: «لقد عمل «تفقد حياة» لدى هيئة المتقاعدين»..هذا من زخم شخصية الراحل العزيز؛ يحلل الواقع بتشاؤم ويخطط له بتفاؤل.
ولتسهيل مهمة الكتابة أعتقد ان أولى المفردات التي تشبه «أبا زياد» وتحضر بحضوره، الحماسة والشغف؛ والأولى أكثر من الثانية.. وبعدها يأتي طوفان الكلمات التي تحمل مواصفاته وسلوكاته: الاخلاص، والوفاء، والطيبة، والكرم، والكبرياء، والجودة والنوعية، والمتانة، والمثابرة، وحسن المعشر، والمراعاة والحيوية، والتواصل، والعطاء والعطف، ومصطلحات أخرى يصعب تحديدها بالضبط كونها من النوعية التي تذكر بمشاعر الثقة.
 ومنذ تعرفي عليه وكنا في مقتبل العمر، تعودنا على حمل أحلام أكبر منا من عيار الحلم بالحرية والالتزام بمتطلباتها دون استقرار، وربما تشاركني العائلة في تعوُّد سلوك صاحب الاسم الحركي «طارق أبو زياد» من عيار حفظ معاني وكرامة المصطلحات الكبيرة وعدم خفض سقوفها، ومن عيار الالتزام بقرارات الجماعة على حساب القرارات الشخصية، وأن يتنقل الراحل في أحراش جرش وفي الجولان وجنوب لبنان وفي اليمن والعراق وسورية ثم العودة إلى فلسطين.
وتعامل الراحل مع مرضه بصلابة ورباطة رغم انه حاصره من جميع الاتجاهات، من اللحم إلى العظم. ولأن الرفيق «أبو زياد» مفطور على المقاومة والعمل التنظيمي والمنظَّم بحماس منقطع النظير، تفاعل مع الحدث كالذي يبدأ التجربة للتوّ، بلا رهان على النجاح سوى بالمثابرة والصبر والتحدي والنظر للمستقبل بشغف الذي يعيش ليرى النتيجة. كنت وصديقتي نضحك كثيراً من الحماس الذي يستقبل فيه الأفكار والمبادرات والمشاريع، كما لو كان أول مرة.
في زيارتي الأخيرة للراحل قبل شهر، تبادلت معه ما نتبادله عادة من أحاديث، طالت الشأن العام الوطني والسياسي مع الخاص وحديث مرضه وتطوراته. انتابتني ذات الايحاءات التي تولّدت لديّ في آخر اجتماع جمعنا في «مركز الدفاع عن الحريات» كرئيس له، شعور خفي بأن الرفيق يؤبِّن نفسه دون أن يقصد. كان يوجِّه النقاش نحو القادم بما فيه الحديث عن دوره الذاتي والمرض العضال الذي يعيق دوره الافتراضي. تحدث بغموض عن مرحلة العدّ العكسي رغم أنه كان يربطها بطرح المهام الموضوعية والمسؤوليات المترتبة بالاستناد إلى الافكار المستقبلية. كان الرفيق يتحدث عن المهام بلغة «نحن». لم يكن جاهزاً لوداعنا، كان يحلم ويتأمل بشغف المتمرس على الصّعاب.
قال لي: أنا في معركة لا تتوقف مع تكتلاتي النشطة، إنها تجول في جسدي بحرية تامة، ويقول ضاحكاً: إنها تتكاثر كالسرطان». ويستطرد أن بعض الكتل تتضاءل مخففة من الوجع المبرح، كان يتأمل في تطورات نهش المرض لجسده ويحلم بذوبان كتل أخرى، تماما كما يتأمل في مشهد المهام والمسؤوليات الوطنية المترتبة بناءً على ملاحظة ظواهر ايجابية منفردة في المشهد العام ليذهب نحو البناء عليها بروح خلاقة.
لم يكن يعلم كل الحقيقة. لقد أخفت الزوجة المشفقة بعض الحقائق بالاتفاق مع المسكنات الجدية، لتُبقي على جذوة الحماس للحلم الأخير..لقد لاحظت عدم جاهزية شريكها ورفيقها «ابو الأولاد» للوداع.
 وكان ثمة أحلام لم يفرغ «سالم خلة» من الرهان عليها بعد.. أحلام خاصة بحملة جثامين شهداء الأرقام وتحريرها من أرقامها..أحلام التركيز أكثر على الحريات المدنية في برنامج عمل مركز الدفاع عن الحريات بالحقوق المدنية ورفعها الى مستوى العمل على حقوق الأسرى والأسيرات..أحلام الانتهاء من الانقسام من خلال أطرها الشعبية التي غاص فيها حتى النهاية.. كان يحمل أحلاما كبيرة بحجم شغفه وحماسه وانتمائه ونقائه ومبدئيته في وطن حر لشعب حر وبناء صرح ديمقراطي لا مكان فيه للتمييز أو العنصرية أو الطبقية.
لم تكن يا «ابا زياد» جاهزاً للوداع، ولم نكن نحن بجاهزين له ايضاً..ستبقى حياً في ذكراك، فالكبار لا يموتون ولا تغيب ذكراهم، لك الرحمة والخلود والسكينة، عشت مناضلاً ومتمسكاً بقيمك الوطنية وترجلت وانت تقبض على ذات المبادئ والقيم في الزمن الصعب دون ان تتراجع قيد أنملة عنها.