رغم أن جميعنا يعلم أن إسرائيل نجحت يوماً بعد يوم في تغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، وقلبت حياة سكان تلك البقعة المقدسة من الأرض عبر أكثر من خمسة عقود، فخلقت واقعاً سياسياً فيها يختلف تماماً عن واقعها القانوني، لكننا تغاضينا أو تجاهلنا تلك الحقائق أو عجزنا عن مواجهتها. الا أن مساعي بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، مستغلاً الدعم المطلق لادارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كشفت بشكل صارخ عن حقائق لم يعد بالإمكان تجاهلها، لأنها لم تدع مجال للشك بنوايا إسرائيل وسياساتها المبرمجة عبر كل تلك السنوات، والتي تضع مستقبل قضيتنا وأرضنا وشعبنا اليوم على المحك.

وقد تكون أول تلك الحقائق التي يجب أن نقف أمامها أن أكثر من ربع قرن مرت على اتفاق أوسلو قلبت موازين الصراع على الأرض لغير صالحنا، وفتحت لإسرائيل أبواب علاقات سياسية ودبلوماسية طبيعية مع جميع دول العالم بما فيها دول عربية وإسلامية، رغم استمرار احتلالها لفلسطين. كما أن تراجع إسرائيل عن قرار الضم جاء في الأساس لسببين أولهما تمثل في عدم حصولها على ضوء أخضر من الولايات المتحدة للقيام بذلك، والثاني جاء انطلاقاً من تهديدات أوروبية باتخاذ إجراءات عقابية لم تألفها إسرائيل من قبل. إن ذلك يكشف حقيقة أخرى لم يعد هناك مجال للشك فيها وهي أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لم تسع يوماً لحل القضية الفلسطينية، وإنما ساهمت في ضمان بقاء هذا الصراع ضمن إطار إدارته ودعم استمرار العملية السلمية سياسياً اقتصادياً، على الرغم من علمها بأهداف وسياسات إسرائيل لتغيير واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إن فكرة ضم أراض فلسطينية لإسرائيل والتي طرحها نتنياهو خلال العام الجاري ووضعها ترامب أيضاً كأساس لخطته للسلام «صفقة العصر» ليست فكرة جديدة، بل هي ممارسة قائمة بالفعل، فإسرائيل ضمت القدس الشرقية منذ عام ١٩٦٧، وباتت المدينة منذ ذلك الوقت خاضعة لقوانينها وتحت ادارتها. كما أن سلطات الاحتلال تطبق قوانين دولتها على المستوطنات والمستوطنين، وبالتالي تضمها فعلياً لإسرائيل. إن ما سعت اليه إسرائيل جاء لضم الأراضي الفلسطينية المصنفة بمناطق (ج) وإحكام سيطرتها القانونية والسياسية عليها، رغم أن إسرائيل راعت في اتفاق أوسلو أن تكون تلك الأراضي تحت سيطرتها الكاملة.

وتشكل الأراضي الفلسطينية المصنفة بمناطق (ج) ثلثي مساحة الضفة الغربية، وأقلها كثافة سكانية، فتمثل المنفذ الطبيعي للزيادة السكانية المستقبلية للفلسطينيين. كما تعتبر تلك المناطق الأغنى بالمصادر الطبيعية أي مركز الموارد الاقتصادية للدولة الفلسطينية المنتظرة ومستقبل التنمية فيها. وتحتضن تلك المناطق القرى والمدن الفلسطينية وتربط بينها، أي تشكل محور الارتباط والتواصل بينها، وبدونها تفقد باقي مناطق الضفة الغربية الأخرى تواصلها ووحدتها. كما تتاخم منطقة (ج) جميع المناطق الحدودية سواء مع أراضي ١٩٤٨ من الغرب والشمال والجنوب أو مع الحدود الشرقية مع الأردن، أي أنها مصدر من مصادر السيادة للدولة الفلسطينية المستقبلية.

وتعاملت إسرائيل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ احتلالها عام ١٩٦٧ وبعد توقيع اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣ كأنها أراض تخضع لسيادتها، ففرضت عليها سياساتها المتمثلة في مصادرة الأراضي والإحلال والتهويد بقوة الأمر الواقع من طرف واحد. وتعتبر إسرائيل قوة احتلال، بإقرار مبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ولم تغير الاتفاقات التي وقعتها مع منظمة التحرير من واقع ذلك الاحتلال، حسب ما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة. وتعتبر جميع إجراءات إسرائيل كقوة محتلة  في الأراضي الفلسطينية إجراءات مؤقتة غير معترف فيها، وهو ما تؤكده بنود تلك الاتفاقية أيضاً وكذلك قرارات مجلس الأمن الصادرة بهذا الخصوص.

على الرغم من المتابعة الحثيثة والمستمرة لإجراءات وممارسات إسرائيل في الضفة الغربية، إلا أن نظرة عامة وشاملة وسريعة يمكن أن تفسر لنا الهدف من سياسات الاحتلال التراكمية عبر خمسين عاماً من الاحتلال، والذي كشف عنه نتنياهو بوضوح من خلال مشروعه لضم الأراضي الفلسطينية في منطقة (ج)، والذي لن ينتهي السعي لتحقيقه بخروج ترامب من الحكم، أو برفض دول الاتحاد الأوروبي الاعتراف به.

تنتشر المستوطنات الإسرائيلية في جميع مناطق الضفة الغربية، من خلال ١٥٠ مستوطنة و١٣٧ بؤرة استيطانية، سعت إسرائيل مؤخراً لإضفاء الشرعية عليها، بالإضافة إلى وجود أكثر من ٥٤٠ موقعاً عسكرياً.  وتحاصر الكتل الاستيطانية الضخمة الضفة الغربية من الشمال بمستوطنة أرئيل ومن الوسط بمستوطنة معاليه أدوميم ومن الجنوب بمستوطنة غوش عتصيون. وقسمت إسرائيل الضفة الغربية إلى أربـع منـاطق استيطانية، ثلاثـة قطاعـات طوليـة تمتد من الشمال إلى الجنوب، ممثلة بالقطاع الشرقي على امتداد غور الأردن وشاطئ البحر الميت، والقطاع الأوسط الذي يحتل قمـم سلاسل الجبــال التـي تقطــع الضـفة الغربيــة من الداخل ويخترق مدنها الرئيسية نابلس وجنين ورام الله والخليل، وقطاع التلال الغربية المتواصل مع الخـط الأخضـر ومراكـز المـدن في إسـرائيل، هذا بالإضافة إلى المستوطنات في منطقة القدس.

نقلت إسرائيل عبر سنوات احتلالها الخمسين مئات الألوف من المستوطنين اليهود ليسكنوا في تلك المستوطنات. ولا تكمن المشكلة فقط في عدد هؤلاء المستوطنين الذي اقترب من المليون، وانما تكمن في سعيها لخلق تفوق عددي في المناطق الاستراتيجية. على سبيل المثال يشكل الفلسطينيون اليوم حوالي ٣٥٪ فقط من العدد الكلي لسكان القدس. وفي منطقة سلفيت شمال الضفة الغربية بات عدد المستوطنين مقارباً لعدد السكان الفلسطينيين، حيث يقيم المستوطنون في ٢٧ مستوطنة، بينما يسكن الفلسطينيون في ١٩ قرية. ويعاني السكان الفلسطينيون ظروفاً مشابهة وغاية في التعقيد في الخليل أيضاً جنوب الضفة الغربية.

واليوم هناك دولة للمستوطنين في الضفة الغربية تنتشر على امتداد مساحتها، تمتلك تواصل جغرافي ليس فقط فيما بينها وانما مع المدن والقرى داخل الخط الأخضر، عبر شبكة طرق ضخمة. إسرائيل تسعى باختصار لتحل مكان الفلسطينيين، وتعتمد على عامل الزمن الذي ضمن هذا التطور الفعلي في مكانة الاحتلال والمستوطنين فوق الأرض الفلسطينية. الزمن الذي تعول عليه إسرائيل لا يكفل لها فقط تغير في وضع إسرائيل على الأرض بالقوة وانما أيضا تراهن عليه لتغيير ثقافة الفلسطينيين لاستيعاب هذا الواقع وثقافة العرب وشعوب العالم الحر أيضا على المدى البعيد.