على الرغم من أن عين الولايات المتحدة الأميركية على روسيا والاجتهاد لإبقائها تحت واشنطن بكثير على سلم النظام الدولي، إلا أن هذه العين لم تحد يوماً عن متابعة الصعود الصيني العجيب الذي حقق قفزات تنموية قد تطيح في العقد المقبل بأميركا الدولة الأقوى في العالم.
الصين الدولة التي كانت متخلفة بالنسبة للغرب قبل عشرات السنين، ها هي اليوم ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم بناتج محلي إجمالي يتجاوز 15 تريليون دولار حسب أقوال الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي تفاخر في كلمة بمناسبة العام الجديد بالنمو الذي حققه التنين الصيني.
العام 2020 الذي شهد تفشي جائحة "كورونا" على نطاق واسع، أضعف الكثير من الاقتصادات الماكنة والنامية على حد سواء، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية التي لم تحسن إدارة التعامل مع ملف "كوفيد - 19"، ما دفعها إلى إطلاق حزم اقتصادية تحفيزية تجاوزت 3 تريليونات دولار، من شأنها أن ترهق الاقتصاد الأميركي الذي بدا مثقلاً بانعكاسات الجائحة.
وحده تقريباً الاقتصاد الصيني الذي حقق نمواً يفوق تريليون دولار في العام 2020 قياساً بالعام 2019، أي ما نسبته 7.25% حسب تصريحات الرئيس الصيني، وهذه النسبة ليست بسيطة أبداً على دولة عانت كما عانى الكثير من الدول من تحديات "كورونا" والإجراءات الاحترازية والوقائية لمنع تفشي الفيروس.
مع ذلك يقول الرئيس الصيني إن بلاده في العام 2020 انتشلت ما يقرب من 100 مليون فقير ريفي من الفقر، وأنجزت اكتشافات واختراعات علمية من بينها إطلاق أول مسبار منتصف العام الماضي، وتحديث القطع البحرية مثل الغواصات والتركيز على التكنولوجيا الدقيقة.
في حقيقة الأمر تمتلك بكين الوسائل كافة التي تؤهلها لقيادة العالم، انطلاقاً من مؤشرات عديدة، لعل أولها تعدادها السكاني الضخم الذي يشكل منصة رئيسة لتطوير وتنويع اقتصادها، وثانيها حجمها في السوق العالمي قياساً بسلعها المتنوعة والرخيصة التي غزت العالم.
فقط في إدارة ملف "كورونا" يمكن ملاحظة تقدم الصين على أي دولة في العالم في مجال تصنيع الكمامات والقفازات والمستلزمات الطبية، ويمكن متابعة الجهد الصيني لاحتواء الفيروس في بلد يعيش فيه أكثر من مليار و400 مليون شخص، أي ما نسبته 17.9% من سكان العالم.
كذلك من حيث الموقع والمساحة فإن بكين تمتلك جغرافيا وافرة بالموارد وواسعة التنوع من سهول وهضاب، وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالى 9.5 مليون كيلومتر مربع، في حين تبلغ مساحتها البحرية أكثر من 4 ملايين كيلومتر مربع، وهي تقع في شمال شرقي آسيا.
المؤشر الآخر مرتبط بالدبلوماسية الناعمة التي تسير وفقها القيادة الصينية، حيث ترحب بالتعاون مع الجميع وهو ترحيب فيه منفعة كبيرة لها، لأنه قد يعني بالضرورة فتح الأسواق أمام البضائع الصينية وتوسيع الاستثمار الذي يجلب لها المنافع السياسية من خلفيات اقتصادية وتجارية.
فضلاً عن ذلك يجوز القول إنه ليس في دفتر بكين أعداء كثر، وعلاقاتها متوازنة مع مختلف الأطراف الدولية وليس فيها حدية سياسية كما هو الحال مع الولايات المتحدة، وفي نهاية العام الماضي أعلن الجانبان الصيني والأوروبي عن اتفاقية استثمار تاريخية مبدئية، جاءت بعد مفاوضات ماراثونية لمدة سبعة أعوام.
الأوروبيون والصينيون بحاجة إلى هذه الاتفاقية لتوسيع الشراكة البينية، خصوصاً أن حجم التبادل التجاري بين بكين ودول الاتحاد الأوروبي في زيادة مطّردة، وقد وصل في الشهور التسعة الأولى من العام 2020 إلى 516 مليار دولار، متجاوزاً حجم التجارة الثنائية بين أوروبا والولايات المتحدة التي وصلت إلى 501 مليار دولار.
قد يكون الذهاب الأوروبي إلى الصين له علاقة بالسعي إلى المصالح والفكاك التدريجي من التبعية للولايات المتحدة، التي شهدت علاقات فاترة بين أوروبا وأميركا في عهد الرئيس السابق ترامب، غير أن الرئيس الجديد جو بايدن دعا دول الاتحاد الأوروبي إلى السير معه في مواجهة الصعود الصيني.
بايدن يعي تماماً أن تجاوز الصين اقتصادياً للولايات المتحدة قد يقود إلى انتصار آخر على باقي المستويات الأخرى ومن بينها السياسية، ولذلك تحدث بكل صراحة في أكثر من مناسبة وتحديداً في مؤتمر ميونخ للأمن قبل أقل من شهر عن تحذيرات بشأن منافسة استراتيجية شاملة مع الصين قد تمتد لأمد طويل.
دون العمل مع الحلفاء التقليديين والاستراتيجيين على الساحة الدولية سواء الأوروبيون أو الدول التي تقع على ضفتي المحيطين الهادئ والهندي مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين لكبح جماح الصعود الصيني، فإن الولايات المتحدة قد تعجز وحدها عن إبطاء هذا الصعود.
الصناعات الصينية اليوم دخلت في كل كبيرة وصغيرة، والاتجاه يذهب إلى تصنيع الطائرات المدنية والعسكرية وغزو الفضاء، والاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، وإذا عجزت واشنطن عن التغير في موقفها لجهة دعم وإسناد شركائها والتعامل معهم بتوازن ومرونة، فقد نكون أمام الصين أولاً في العقد المقبل.
التنافس الأميركي - الصيني لم يهدأ أبداً، وهو يقود إلى سباق تكنولوجي واقتصادي يتصل بتوسيع التجارة وغزو الأسواق على المستوى الدولي، وكذلك سباق تسلح مرتبط ببناء وتطوير القدرات العسكرية، وفي النتيجة الإجمالية سباق حول من يتربع على عرش النظام العالمي.