كان شهر رمضان المبارك حافلاً بالأحداث في فلسطين، وشهد نهوضاً لانتفاضة شعبية فلسطينية في وجه الاحتلال ومنظومة التطهير العرقي والتمييز العنصري الإسرائيلية، امتدت إلى مواجهة عسكرية واسعة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، ما زالت متواصلة أثناء كتابة هذا المقال.
ودون الدخول في التفاصيل على أهميتها، تجب الإشارة إلى عدد من الحقائق التي ترسخت خلال هذه الفترة :
أولاً :أن الشعب الفلسطيني يعيش اليوم حالة انتفاضة ومقاومة حقيقية، مضمونها الرئيس تحدي الاحتلال وإجراءاته ومقاومة منظومة الاضطهاد والتمييز العنصري التي أنشأها. وهي انتفاضة لها طابعها الخاص، بمعنى أنها تختلف عن الانتفاضتين الأولى والثانية، وتجري على شكل موجات متتالية، وقد حققت خلال شهر رمضان زخماً غير مسبوق، وستبقى مستمرة، بأسلوب من المواجهات المتتالية حول قضايا عديدة.
ثانياً : أن المسجد الأقصى والقدس وأحياؤها، وخاصة الشيخ جراح وأهلها وشبابها، أدت كالعادة دور المفعل الرئيس للمقاومة الشعبية، وكانت الشرارة التي أشعلت سائر أرجاء فلسطين.
ثالثاً : إن هذه الانتفاضة، أو الهبة كما يفضل بعض الناس تسميتها، حققت وحدة غير مسبوقة بين مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة، في الأراضي المحتلة والداخل والخارج، وأكدت وحدة النضال المشترك ضد نفس منظومة الاحتلال والأبرتهايد الاسرائيلية، وهذا ما رأيناه في انتفاضة القدس والضفة والقطاع، بالتزامن مع نهوض مذهل وغير مسبوق للفلسطينيين في الداخل بجميع مدنهم وقراهم وتجمعاتهم البدوية، ووصل الأمر إلى حد فرض الاحتلال منع التجول في مدينة اللد العربية، وإلى مواجهات مع المتطرفين الإسرائيليين في يافا وحيفا وعكا والناصرة والجليل والنقب والمثلث نتيجة انفجار العنصرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والتي لعب مستوطنو الضفة الغربية وسلوكهم الفاشي دورا بارزا فيها.
وبذلك تحقق الركن الثالث من أركان الإستراتيجية الوطنية البديلة المطلوبة لتغيير ميزان القوى، وهي تكامل نضال مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج والأراضي المحتلة، ومثل ذلك تحقيقاً لما أشار اليه تقرير فريق “اسكوا”، وتقارير منظمتي “هيومن رايتس ووتش”، و”بيتسيلم”، بأن الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة يواجه منظومة اضطهاد وتمييز عنصري واحدة، وكان طبيعياً أن يؤدي ذلك إلى وحدة نضاله في مواجهتها.
وتجاوز الأمر هنا الوضع المعتاد بتضامن أهل الداخل مع الأراضي المحتلة بما فيها القدس، إلى الانخراط في نفس النضال المشترك والموحد.
رابعاً:النهوض الرائع للشباب الفلسطيني الذي تصدر ساحة النضال في القدس، والشيخ جراح وسائر أرجاء الأراضي المحتلة والداخل، ودون انتظار لتوجيهات أو تعليمات من أحد، وما ساهم بذلك نشوء حالة تماثل ما جرى في الانتفاضة الشعبية الأولى، بتقدم الجماهير على القيادات السياسية التقليدية، بل وجر بعض هذه القيادات إلى ساحة المواجهة.
خامساً:الفشل المدوي للمشروع الصهيوني- الإسرائيلي، ويتجلى هذا الفشل في مظهرين أساسيين، الأول أن الحركة الصهيونية ورغم أنها حققت الاستيلاء على الأرض بالقوة إلا أنها فشلت في تحقيق الركن الثاني لخططها بتكرار التطهير العرقي للشعب الفلسطيني وترحيله، ونشأ وضع صار فيه عدد الفلسطينيين في أرض فلسطين التاريخية أكبر من عدد اليهود الاسرائيليين رغم التهجير الذي نفذ في النكبة عام 1948، والتهجير الجزئي عام 1967.
أما المظهر الثاني فيتمثل في فشل الحركة الصهيونية وحكام إسرائيل في تنفيذ مخططاتها لاحتواء الوجود الديموغرافي الفلسطيني ، والتي تمثلت في ثلاث عمليات: أسرلة المجتمع الفلسطيني في أراضي 1948، وفصل الضفة عن القطاع، وثالثاً إحتواء سكان الأراضي المحتلة ومنظمة التحرير الفلسطينية عبر “فخ” أوسلو، في منظومة حكم ذاتي تحت سيطرة الاحتلال. وكانت الهبة الشعبية الرائعة والموحدة لفلسطينيي الداخل والضفة والقطاع الدليل الساطع على فشل تلك المخططات، بالاضافة إلى عزلة الأقلية التي تتساوق مع هذه المخططات.
سادساً :تكامل المقاومة الشعبية التي رأينا أفضل مظاهرها في المسجد الأقصى والشيخ جراح وباب العمود وباقي مناطق القدس مع مقاومة الردع العسكري في قطاع غزة، لتحقيق أهداف سياسية، مع العلم أن المعركة ما زالت متواصلة لصد العدوان العسكري الإسرائيلي الرامي إلى تحجيم قدرة الردع.
سابعاً :أثبتت الأحداث الأخيرة ما كان مؤكداً من حاجة الشعب الفلسطيني لاستراتيجية وطنية بديلة لنهج أوسلو والمراهنة على المفاوضات أو المراهنة على الادارة الأميركية، بالتركيز على تغيير ميزان القوى.
كما أكدت أحداث الشهر الماضي ليس فقط إمكانية إحداث التغيير في ميزان القوى، بل وأيضا أن المقاومة حققت تغييراً فعلياً يجب أن يتواصل.
وأثبتت الوقائع، صحة عناصر هذه الاستراتيجية وفعاليتها، من المقاومة الشعبية، إلى حركة المقاطعة، ووحدة النضال الفلسطيني، وتكامل مكونات الشعب الفلسطيني، ودعم الصمود الوطني على الأرض.
ورغم استمرار مراوحة بعض الأطراف في دوائر النهج الماضي، فإن الاستراتيجية الجديدة فرضت نفسها على الأرض ومن خلال وحدة فعل ونشاط الجماهير الفلسطينية التي أكدت أن النضال والكفاح والمقاومة توحد الفلسطينيين في حين أن الصراع على السلطة يقسمهم.
وصار مؤكدا أن فلسطين تشهد انتفاضة شعبية مجيدة توحد فيها الشعب الفلسطيني حول نهج المقاومة والكفاح لتحقيق الحرية وإنهاء الاحتلال وإسقاط نظام الابرتهايد العنصري في كل فلسطين التاريخية.
وأظهر الإضراب الشامل والمظاهرات العارمة التي جرت يوم امس الاول، الوحدة الرائعة لكل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والأراضي المحتلة والخارج والالتفاف حول قطاع غزة الذي يتعرض لغارات بربرية من جيش الاحتلال.
دخلت فلسطين مرحلة جديدة مضمونها الوحدة في انتفاضة شعبية شاملة واستراتيجية كفاح ضد الاستعمار الاستيطاني الإحلالي كبديل لنهج المراهنة على المفاوضات والاتفاقيات البائسة مثل اتفاق أوسلو وشعار الشباب الفلسطيني اليوم هو أن فلسطين التي يعرفونها هي كل فلسطين وليس “بانتوستانات” و”غيتوات” مقطعة الأوصال.
ويبدو واضحا أن الانتفاضة ستتواصل حتى بعد وقف العدوان العسكري على قطاع غزة لأنها بدأت في القدس والشيخ جراح والمسجد الأقصى ولن يتوقف النضال الفلسطيني حتى نيل الحرية.
لقد تجاوزت الجماهير بوحدتها الميدانية الانقسام السياسي الذي ما زال قائماً، وخلقت تناقضاً لا يمكن حله إلا بإنشاء قيادة وطنية فلسطينية موحدة قائمة على مبدأ الشراكة الديمقراطية، وتبني نهج الكفاح والنضال، وتوحيد مركز صنع القرار السياسي والكفاحي.
ثامناً :مرة أخرى أثبت الشعب الفلسطيني أنه الوحيد القادر بنضاله وتضحياته على إعادة فرض القضية الفلسطينية على طاولة العالم، وتجاوز التهميش الذي كرسه الاحتلال وأطراف دولية كثيرة، وتأكدت مرة أخرى مقولة “أنه ما حك جلدك مثل ظفرك”، وأن استنهاض الفلسطينيين في الخارج وحركة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني يتحقق دوماً من خلال استنهاض النضال والمقاومة على أرض فلسطين.
وباختصار، دخل النضال الوطني الفلسطيني اليوم مرحلة جديدة مبشرة، وحافلة بالفرص والامكانيات، ولكنها تستدعي الحذر من محاولات أعداء الشعب الفلسطيني تخريب ما تحقق وما قد يتحقق من إنجازات، من خلال التصعيد الخطير الذي يمارسه نتنياهو باستخدام القصف المدفعي إلى جانب الجوي ومن خلال إستخدام الجيش والاعتقال الإداري ضد الفلسطينيين في الداخل وعبر محاولات أطراف خارجية مناصرة لإسرائيل امتصاص نتائج الانتفاضة الجارية وإعادة الوضع إلى ماكان عليه، أو الزج بالفلسطينيين في عمليات سياسية عقيمة.