خلال اجتماع استثنائي، عُقد مؤخراً كما هو معروف، اتخذ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قراراً لافتاً بتشكيل لجنة دولية خاصة تتولى التحقيق في انتهاكات دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما إذا كانت ترقى إلى مستوى جرائم حرب؛ ليس في قطاع غزّة خلال العدوان الهمجي الأخير فقط، وإنما في الضفة الغربية وعلى امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلة. ثمة، في حيثيات التالية المتصلة بالواقعة، ما يلفت الانتباه إلى جوانب كثيرة لا تقتصر على المجلس ذاته وإشكالياته العديدة، بل تشمل أيضاً مفاهيم حقوق الإنسان كما تعتمدها المنظمة الأممية، وتصادق عليها ديمقراطيات عديدة غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً.

هنا بعض تلك الحيثيات:
ــ الجلسة انعقدت بناء على طلب باكستان وفلسطين؛
ــ تمّ تمرير القرار بأغلبية 24 صوتاً، مقابل، 9 وامتناع 14 عن التصويت؛
ــ الدول الرافضة كانت النمسا وبلغاريا والكاميرون وتشيكيا وألمانيا ومالاوي وجزر المارشال وبريطانيا وأوروغواي؛
ــ الدول الممتنعة عن التصويت كانت الهند وجزر الباهاما والبرازيل والدانمرك وفيجي وفرنسا وإيطاليا واليابان ونيبال وهولندا وبولندا وكوريا وتوغو وأوكرانيا؛
ــ ميشيل باشليه، مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أوضحت أنّ الضربات الإسرائيلية ضد غزة وقتلَ المدنيين واستهداف المنشآت المدنية في القطاع قد ترقى إلى مستوى جريمة حرب، وأوضحت وأضافت أن<المدنيين الإسرائيليين يستفيدون من القبة الحديدية في حين أن الفلسطينيين في غزة لا حماية لهم.
ــ الولايات المتحدة (التي لا تملك حقّ التصويت لأنها اليوم عضو مراقب) أعربت عن «أسف شديد» معتبرة أنه «يهدد بعرقلة التقدم الذي تمّ إحرازه» بواسطة الجهود الأمريكية؛ وأما بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال فقد اعتبر أنّ القرار «مخز ويعبّر عن هوس المجلس المعادي لإسرائيل» وثمة في المجلس «أغلبية معادية لإسرائيل وغير أخلاقية».
وإذا لم تكن ثمة مفاجأة، ولا دلالة كذلك، في لائحة الدول الرافضة، لأسباب لا تقتصر على محاباة دولة الاحتلال بل تذهب أعمق نحو تواريخ تورّط بعض الرافضين في انتهاكات لا تقلّم فظاعة؛ فإنّ الكثير من الدلالة يكتنف بعض الدول التي امتنعت عن التصويت (الهند بصفة خاصة، ثمّ اليابان تالياً، وصولاً إلى فرنسا وإيطاليا ونيبال وبولندا…). وقد لا يكون المرء مضطراً إلى استرجاع منعطفات تاريخية لبعض الممتنعين قد تُلزمهم بعدم الامتناع عن التصويت (موقع الهند ضمن ما سُمّي ذات يوم خيار «عدم الانحياز» في العلاقات الدولية القطبية، أو فرنسا بصدد «السياسة الشرق – أوسطية التي اقترنت بالجنرال دوغول، أو فلسفة «الحياد الإمبراطوري» في مدوّنة السياسة الخارجية لليابان…). غير أنّ قراراً من الطراز الذي اتخذه مجلس حقوق الإنسان مؤخراً إنما يبدأ في واقع الأمر من إعادة توصيف جريمة الحرب في ضوء معطيات تكنولوجيا التدمير العسكرية المنفلتة من كلّ عقال، ويطمح إلى تثبيت معايير الحدود الدنيا لوقف الإفلات من الحساب.

لم تكن ازدواجية معايير الدول التي صوتت ضدّ، أو امتنعت عن التصويت، ناجمة فقط عن الخشية من المسّ بمصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ غير أنّ حيثيات مفهوم حقوق الإنسان ذاته لا تشجّع على الرفض والامتناع فقط، بل تحثّ أيضاً على تأمين الإفلات من العقاب

وتلك مقاربة لا تخفف وطأة تلك المشكلات البنيوية الأعمق التي اكتنفت مفهوم حقوق الإنسان في تأويلاته الأممية المختلفة التي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة؛ ليس من دون إسناد القوى العظمى على اختلاف عقائدها، وحتى حين كانت قطبية الحرب الباردة تهيمن تماماً على مشهد العلاقات الدولية. فالنصّ الذي صوتت عليه الأمم المتحدة في قصر شايو، من ضواحي باريس، مطلع كانون الأول (ديسمبر) 1948؛ سوف يدخل التاريخ السياسي المعاصر تحت تسمية «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» وعلى أسس 30 مادة، ولغة كونية عامة وتعميمية، مهدت الكثير من الدروب المتعرجة أمام اعتصار «شرعة دولية» حول حقوق الإنسان، لن ترى النور قبل سنة 1966.

هنا بعض الحقائق التكوينية، التي صنعت وتواصل صناعة الكثير من إشكاليات المفهوم في منطوقه الأممي:
1 ـ ليس دقيقاً التأكيد، الشائع، بأنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة صوّتت عليه بالإجماع، لأنّ التصويت أسفر عن 48 دولة لصالح الإعلان، و8 دول ضده. ولو كان عدد الدول النامية («العالم الثالث» في العبارة السالفة) كما هو عليه اليوم في المنظمة، فإنّ من الصعب تخيّل تحقيق هذه النسبة في التصويت، وربما من الصعب تخيّل الإعلان وقد فاز بالتصويت أصلاً.
2 ـ الجهات التي صاغت النصّ كانت هي ذاتها القوى الغربية الكبرى، الضالعة في سياسات استعمارية هنا وهناك في العالم، والتي كانت تمارس انتهاك حقوق الإنسان (وحقوق الشعوب، في عبارة أدقّ) حتى وهي تنخرط في معمعة النقاشات المحمومة حول هذه الصيغة أو تلك من فقرات الإعلان نفسه. لم يكن غريباً، في السياق، أنّ المؤتمر التأسيسي لدول عدم الانحياز (باندونغ 1955) امتنع عن إبداء أيّ دعم سياسي للإعلان، واكتفى رؤساء الدول (وكانوا من الكبار للتذكير: نهرو، عبد الناصر، تيتو…) بالقول إنهم أخذوا به علماً!
3 ـ بعض السبب يعود إلى أنّ الإعلان يسكت تماماً عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها (الأمر الذي يتناقض على نحو صارخ مع الفقرة الأولى التي تقول: «يولد البشر أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق»). أكثر من ذلك، يسوّغ الإعلان مفاهيم الوصاية والانتداب والهيمنة الاستعمارية، حين يحثّ الدول الأعضاء (المستقلة و/ أو الاستعمارية) على احترام حقوق شعوبها مثل حقوق الشعوب والأراضي الواقعة تحت سلطتها القانونية (أي: الدول غير المستقلّة و/ أو المستعمَرة).
4 ـ في توصيف مفهوم حقوق الإنسان، ينطلق الإعلان من شخصية الإنسان الغربي وحده، أي من قِيَمه وثقافته وأعرافه وفلسفاته، من حضارته التي كانت هي التي انتصرت (على نفسها!) بعد الحرب العالمية الثانية، حين انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، وإطلاق «النظام الدولي الجديد»… آنذاك، وليس عام 1991 في أعقاب «عاصفة الصحراء» أو 2001 بعد انهيار برجَي التجارة في 11/9، أو 2003 بعد غزو أفغانستان والعراق، أو 2011 حين تفجرت الانتفاضات الشعبية في العالم العربي. الإعلان كان وليد تلك البرهة الإجماعية الغربية بامتياز، ولم يكن مدهشاً بالتالي أن تكون «صورة العالم» كما يصفها الإعلان، هي صورة العالم كما رسمتها الحضارة الغربية.
5 ـ إنها، بمعنى النقلات الحضارية الكبرى، صورة تبدأ من اليونان الإغريقي الكلاسيكي، ثم تمر» من روما الإمبراطورية، فالكنيسة الكاثوليكية. هنالك أيضاً عصر الأنوار، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية، الآلة البخارية، الثورة الصناعية، الحداثة. هنالك، أيضاً، الحروب الصليبية «اكتشاف» أمريكا، محاكم التفتيش، الفتوحات الاستعمارية، الإمبريالية، الفاشية، والنازية. هنالك، بمعنى آخر، الصالح مثل الطالح، والكوني مثل المحلي، والعامّ مثل الخاص…
وهكذا فإنّ وثيقة 1948 لم تكن قادرة على تمثيل حصيلة إنسانية مشتركة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تكن خالية من الثغرات التي ترقى إلى مستوى المساوئ البنيوية، تماماً مثلما كانت حافلة بالمحاسن التي تبرّر القول إنها خطوة كبرى وأولى على طريق صياغة تعاقد إنساني عالمي حول حقوق الإنسان. ولم يكن غريباً أن يرفع الغرب رايات حقوق الإنسان في ذروة دعمه ومساندته، بل وأحياناً قتاله إلى جانب، أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث عموماً وبلدان الشرق الأوسط والثروات النفطية خصوصاً. ولم تكن ازدواجية معايير الدول التي صوتت ضدّ، أو امتنعت عن التصويت، على قرار مجلس حقوق الإنسان الأخير، ناجمة فقط عن الخشية من المسّ بمصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي لدى دول مثل بريطانيا أو النمسا أو ألمانيا، غير أنّ حيثيات مفهوم حقوق الإنسان ذاته لا تشجّع على الرفض والامتناع فقط، بل تحثّ أيضاً على تأمين الإفلات من العقاب.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس