سأكتب مقالتي هذه المرة باسم التفاؤل، عن بقعة ضوء صغيرة وجميلة؛ وقد أنهكتنا العتمة في مواقعنا وحولنا في الشرق النازف عجزاً وجهلاً. أعرف أن الخوض في العموميات يكون على الكاتب بالعادة أسهل، واحتماءه بالغيبيات يحيل ليله إلى قنطرة، واحترافه للرفض يجعله إمّا منظّراً أو «مفكراً» وإدمانه على المزايدات قد يحوله إلى «مناضل» ومسطرة.
لم يسمع معظم القراء، على الغالب، باسم جمعية «يداً بيد» لأنها رغم أهمية ما تؤمن وتقوم به، تعتبر مؤسسة صغيرة تعنى بتنشئة أجيال جديدة من الطلاب العرب واليهود، على مبادئ الشراكة الحقة بين جميع المواطنين في إسرائيل، وعلى أسس من التكافؤ الكامل واحترام الغير، وقبول موروثه الثقافي ومعتقداته، ومفاصل تاريخه كما هي موجودة في ذاكرته الجمعية وفي سردياته الخاصة.
لقد آمن مؤسّسو الجمعية بأهمية رسالتي التعليم والتربية، وبكونهما الوسيلتين الأساسيتين لبناء حاضر المجتمعات، وضمان مستقبلها السليم، خاصة إذا كان المجتمع يواجه انشطارا عاموديا، وتتخاصم قطاعاته المختلفة، لأسباب تاريخية، مثلما هو الحال بين العرب واليهود داخل إسرائيل. بدأت الفكرة تتجسد عن طريق بناء مدارس تعتمد نظاما تعليميا ثنائي اللغة، يتعلم فيها الطلاب العرب واليهود، من جيل الحضانات حتى التخرج، باللغتين العربية والعبرية، ووفقاً لمناهج خاصة يتمّ إعدادها وانتقاؤها من قبل طواقم المعلمين والمسؤولين التربويين العاملين في الجمعية. أقيمت أول مدرسة عام 1997 وكانت في بناية متواضعة ومستأجرة في أحد أحياء القدس، ثم ما لبثت تتطور حتى أصبح لدى الجمعية في أيامنا سبع مدارس يتعلم فيها أكثر من ألفي طالب، عربي ويهودي. بنيت أولى المدارس العصرية التابعة للجمعية في القدس عام 2007 بدعم كامل من عائلة ماكس رين البريطانية، ثم أقيمت بعدها المدارس في منطقة المثلث كفر قرع وكفر قاسم وراس العين والجليل ويافا وحيفا وبيت بيرل. يقوم على إدارة الجمعية طاقم عربي ويهودي من الموظفين أصحاب الخبرة، ويعلّم في مدارسها طواقم معلمين، عرباً ويهوداً، وجميعهم مؤمنون بالفكرة وبأهمية الرسالة.
تعرضت مدرسة «يداً- بيد» في نهاية عام 2014 لاعتداء آثم، حيث قامت مجموعة من ناشطي اليمين الفاشي بإحراقها، وبكتابة عدة شعارات معادية للعرب وللمدرسة التي يتعلم بين جدرانها طلاب عرب ويهود. أثار الاعتداء، في حينه، موجة من الغضب في أوساط رسمية وشعبية عديدة، لاسيما بين عائلات الطلاب وأصدقاء جمعية «يدًا بيد» الذين طالبوا بالكشف عن الجناة وبتقديمهم إلى القضاء. نجحت الشرطة باعتقال ثلاثة مجرمين ناشطين في إحدى الحركات العنصرية الفاشية، وتمّ تقديمهم إلى القضاء بتهم التحريض على العنف وإحراق المدرسة. بعد أن «استفزتهم» المدرسة، حسب ادعاءاتهم، عندما أحيت ذكرى وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات. اعترف الأخوان شلومو ونحمان طويطو بالتهم المنسوبة إليهما، فحكمت المحكمة المركزية في القدس، أواسط عام 2015، بالسجن الفعلي لمدة عامين على شلومو طويطو، بينما حكمت على نحمان بالسجن الفعلي لمدة عامين ونصف العام. وفي وقت لاحق بتاريخ 1/12/2015 تمت إدانة المتهم الثالث ويدعى يتسحاك جباي، بعدة تهم جنائية، تضمنت، علاوة على التهمتين المذكورتين، تماثله مع تنظيم إرهابي؛ فحكمت عليه بالسجن الفعلي لمدة ثلاثة أعوام، ومن الجدير ذكره أن المحامي عضو الكنيست الحالي إيتمار بن جبير، مثله ودافع عنه أمام القضاء.
استقطب حكم المحكمة المركزية انتقادات واسعة، فوصفته جهات عديدة بالحكم الخفيف، وبكونه خالياً من مركب الردع، ليس بحق الجناة، الذين صرحوا بأنهم نفذوا جرائهم انتقاماً من المدرسة التي تساعد على التعايش والاختلاط بين المواطنين العرب واليهود، وحسب بل لضرورة إشاعة أجواء الردع في وجه موجات التحريض والاعتداءات العنصرية المتفاقمة في جميع أنحاء البلاد. قامت النيابة العامة بتقديم استئناف على الأحكام الصادرة فقبلته المحكمة العليا، وأضافت على حكم كل من الأخوين طويطو مدة ثمانية أشهر على السجن الفعلي، وعلى المتهم جباي مدة أربعة شهور، بعد أن وصف القضاة خطورة جرائمهم العنصرية، التي استهدفت هدم النسيج الإيجابي، الذي تحاول جمعية «يداً بيد» ومؤسساتها التربوية بناءه.
«يداً بيد».. منارة تبعث الأمل في زمن العتمة، وبقعة ضوء صغيرة وجميلة نتمنى أن تدوم، وألا تدفنها حكومة إسرائيل الجديدة
لم يكن درب الجمعية خضراء؛ فمنذ البدايات وحتى أيامنا تواجه تحريض القوى اليمينية، وتواجه إعراض مؤسسات الدولة وتردُّد وزاراتها في قبول فكرة التعليم ثنائي اللغة؛ وهي الفكرة التي قوبلت ايضا بالتشكيك من قبل المجتمعين العربي واليهودي، اللذين كبرا في دولة ربّت مواطنيها اليهود على استرياب مواطنيها العرب، ونمّت بين مواطنيها العرب مشاعر القهر، جراء سياساتها العدوانية والعنصرية بحقهم وبحق أبناء شعبهم.
لقد صمدت الجمعية في وجه جميع محاولات كسرها وإفشالها ونجحت مدارسها، بدعم الخيّرين المؤمنين بالنور ولاعني الظلمات، بترسيخ نهجها الطلائعي الجديد، الذي بدأ يستقطب اهتمام قطاعات واسعة من العالم وداخل المجتمع الإسرائيلي.
«يدًا بيد» والحكومة الجديدة!
من المتوقع أن تصوت الكنيست يوم الأحد المقبل على حكومة لابيد – بينت، التي ستنال لأول مرّة في تاريخ إسرائيل دعم قائمة عربية إسلامية، لم يتم تشكيلها منذ البداية كقائمة تابعة لحزب صهيوني، كما كان يجري في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مع خلق ظاهرة «أقمار» حزب «مباي» وأعوانه من بين المواطنين العرب.
كانت السياسة ومازالت أمّ الخيبات وقاهرة المستحيلات، وستبقى، كذلك، سيدة المفاجآت الكبرى؛ فلا أحد يستطيع أن يتخيل كيف ستصمد هذه الحكومة المتوقع إعلانها رغم جميع التناقضات الجوهرية القائمة بين مركباتها، ولا أعني طبعا صعوبة توافق نواب الحركة الإسلامية مع سياساتها المتوقعة، بل أقصد استحالة استمرار حالة «الطاعة البيتية» بين نفتالي بينت من جهة وسائر الشركاء، خاصة إذا استمرت الأحزاب اليمينية والدينية التي بقيت خارج الإئتلاف بهجومها السافر والمباشر عليه. يساورني حدس بأن عمر هذه الحكومة سيكون قصيرا؛ فطبيعتها غير متجانسة مع روح الفضاءات السياسية، التي تجلت في نتائج الانتخابات الأخيرة؛ وهي، بكونها البديلة أو النقيضة للحكومة الأسوأ والأخطر التي لم ينجح نتنياهو بتشكيلها، لا تعد إفرازا طبيعيا، لوجهة التيارات الصهيونية المتعاظمة داخل المجتمع الإسرائيلي، والجانحة نحو يمينية صهيونية دينية، متوشحة بنزعات فاشية واضحة.
لقد شاركتُ في جميع جولات الانتخابات النيابية للكنيست الإسرائيلية، ودعوت غيري للتصويت؛ وحاولت أن أؤثر في النتائج كي ندرأ، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، الأسوأ. وأعي أننا نعيش وسط مجتمع يهودي تتزايد عنصريته السامة من يوم إلى يوم، وأعرف أنه ليس بالمشاركة السياسية وحدها سنحصل على حقوقنا، لكنني مقتنع بأننا بممارستها ستكون فرصنا بالحياة الكريمة أكبر وأكثر واقعية، خاصة إذا عملنا من أجل تعزيز وحدتنا، واتفقنا على ما نريد وما لا نريد وما هي وجهتنا وكيف تكون نجاتنا.
آمنت، منذ البدايات، بضرورة الشراكة مع القوى اليهودية، التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي، وتقاتل من أجل تحويل إسرائيل لدولة مواطنيها، حيث ينال فيها الجميع كل حقوقهم، المدنية والقومية، ويعيشون بمساواة وحرية وعدل كاملين غير منقوصين. لقد خضت خلال العقود الخالية تجارب عديدة، فحققنا، على طريق تلك الشراكة، القليل القليل، وفشلنا في معظم الجبهات والمعارك؛ ومع ذلك لم أيأس، لأنني مقتنع بأن هويتي هي لغتي ودمي وهي حصني، ولكن مواطنتي، مهما كانت منقوصة، هي، بالبداية، حقي الطبيعي، وهي، في النهاية، مظلتي التي أقاتل وأناضل تحتها من أجل بقائي، حراً كريماً، في أرضي، ومن دون منة أحد. قصتي مع جمعية «يداً بيد» هي امتداد طبيعي لتلك التجارب، وقد بدأت عندما انتقلت ابنتي للدراسة الثانوية في المدرسة على اسم ماكس رين، وتخرجت منها قبل عقد من الزمن. كنت ناشطًا كأب في لجنة الأولياء، ثم رئيساً للجنة، ثم انضممت ، بعد تخرج ابنتي، كعضو في لجنة إدارة الجمعية، ثم انتخبت، قبل سنوات ومازلت، رئيسا قطريا لها إلى جانب رئيسها، بالشراكة، اليهودي المحامي حاجاي شموئيلي. تضم لجنة الإدارة مجموعة من الشخصيات اليهودية والعربية البارزين والمتطوعين للعمل فيها والداعمين لفكرتها ولرسالتها، ولدورها في تنمية أجيال من الخريجين المؤمنين بقدسية الحياة، وبضرورة احترام الآخر وقبوله إنسانا كاملاً، رغم اختلاف ثقافته ومعتقداته ومواقفه؛ أجيال واجهت واصغت للروايات المختلفة والنقيضة من مصادرها، ففهمت معنى الشراكة في ظل مواطنة حقيقية وفي دولة تعيش فaيها أكثرية يهودية إلى جانب أقلية عربية، هي جزء من شعب فلسطين الذي تشتت في يوم النكبة؛ أجيال تعلمت معنى الغبن وضرورة الإقرار به كي يصبح الصفح جائزاً والتسامح ضرورة؛ ويفتشون، على الرغم من المآسي والوجع، عن مستقبل يجمعهم؛ أجيال عربية ويهودية تعرف كيف تختلف من دون أن يحرقوا المدارس ويعلقوا لبعضهم أعواد المشانق.
«يداً بيد».. منارة تبعث الأمل في زمن العتمة، وبقعة ضوء صغيرة وجميلة اتمنى أن تدوم، وألا تدفنها حكومة إسرائيل الجديدة.